فصل: تفسير الآيات رقم (1- 2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة العصر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَالْعَصْرِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ‏(‏2‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

أقسم الله تعالى بالعصر قسماً يراد به تأكيد الخبر كما هو شأن أقسام القرآن‏.‏

والمقسَم به من مظاهر بديع التكوين الرباني الدال على عظيم قدرته وسعة علمه‏.‏

وللعصر معاننٍ يتعين أن يَكون المراد منها لا يعدو أن يكون حالة دالة على صفة من صفات الأفعال الربانية، يتعين إما بإضافته إلى ما يُقدر، أو بالقرينة، أو بالعهد، وأيَّاً ما كان المرادُ منه هنا فإن القسم به باعتبار أنه زمن يذكِّر بعظيم قدرة الله تعالى في خلق العالم وأحواله، وبأمور عظيمة مباركة مثل الصلاة المخصوصة أو عصرٍ معين مبارك‏.‏

وأشهر إطلاق لفظ العصر أنه علَم بالغلبة لوقتتٍ ما بين آخر وقت الظهر وبين اصفرار الشمس فمبدؤه إذا صار ظل الجسم مثلَه بعد القَدْر الذي كان عليه عند زوال الشمس ويمتد إلى أن يصير ظلُّ الجسم مثلَيْ قدرِه بعد الظل الذي كان له عند زوال الشمس‏.‏ وذلك وقت اصفرار الشمس، والعصر مبدأ العشيّ‏.‏ ويعقبه الأصيل والاحمرار وهو ما قبل غروب الشمس، قال الحارث بن حِلزة‏:‏

آنستْ نبأة وأفزَعها القَنَّ *** اصُ عَصراً وقَدْ دَنَا الإِمساء

فذلك وقت يؤذن بقرب انتهاء النهار، ويذكر بخلقة الشمس والأرض، ونظام حركة الأرض حول الشمس، وهي الحركة التي يتكون منها الليل والنهار كل يوم وهو من هذا الوجه كالقسم بالضحى وبالليل والنهار وبالفجر من الأحوال الجوية المتغيرة بتغير توجه شعاع الشمس نحو الكرة الأرضية‏.‏

وفي ذلك الوقت يتهيأ الناس للانقطاع عن أعمالهم في النهار كالقيام على حقولهم وجنَّاتهم، وتجاراتهم في أسواقهم، فيذكر بحكمة نظام المجتمع الإِنساني وما ألهم الله في غريزته من دأب على العمل ونظاممٍ لابتدائه وانقطاعه‏.‏ وفيه يتحفز الناس للإِقبال على بيوتهم لمبيتهم والتأنس بأهليهم وأولادهم‏.‏ وهو من النعمة أو من النعيم، وفيه إيماء إلى التذكير بمَثَل الحياة حين تدنو آجال الناس بعد مضي أطوار الشباب والاكتهال والهَرم‏.‏

وتعريفه باللام على هذه الوجوه تعريف العهد الذهني أي كل عَصْر‏.‏

ويطلق العصر على الصلاة الموقتة بوقت العَصر‏.‏ وهي صلاة معظمة‏.‏ قيل‏:‏ هي المراد بالوسطى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏‏.‏ وجاء في الحديث‏:‏ «من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهلَه ومالَه»‏.‏ وورد في الحديث الصحيح‏:‏ «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة» فذَكَر «ورجل حلف يميناً فاجرة بعد العصر على سلعة لقد أعطي بها ما لم يُعْطَ» وتعريفه على هذا تعريف العهد وصار علَماً بالغلبة كما هو شأن كثير من أسماء الأجناس المعرفة باللام مثل العَقَبَة‏.‏

ويطلق العصر على مدة معلومة لوجود جِيل من الناس، أو مَلِك أو نبيء، أو دين، ويعيَّن بالإِضافة، فيقال‏:‏ عصر الفِطَحْل، وعصر إبراهيم، وعصر الإِسكندر، وعصر الجاهلية، فيجوز أن يكون مراد هذا الإِطلاق هنا ويكون المعنيّ به عصرَ النبي صلى الله عليه وسلم والتعريف فيه تعريف العهد الحضوري مثل التعريف في ‏(‏اليوم‏)‏ من قوْلك‏:‏ فعلت اليوم كذا، فالقسم به كالقسم بحياته في قوله تعالى‏:‏

‏{‏لعمرك‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 72‏]‏‏.‏ قال الفخر‏:‏ فهو تعالى أقسم بزمانه في هذه الآية وبمكانه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنت حل بهذا البلد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 2‏]‏ وبعمره في قوله‏:‏ ‏{‏لعمرك‏}‏‏.‏ اه‏.‏

ويجوز أن يراد عصر الإِسلام كلِه وهو خاتمة عصور الأديان لهذا العالم وقد مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم عصر الأمة الإِسلامية بالنسبة إلى عصر اليهود وعصر النصارى بما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس بقوله‏:‏ «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء يعملون له يوماً إلى الليل فعملت اليهود إلى نصف النهار ثم قالوا‏:‏ لا حاجة لنا إلى أجرك وما عملنا باطل، واستأجر آخرين بعدهم فقال‏:‏ أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا‏:‏ لك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلتَ لنا، واستأجر قوماً أن يعملوا بقيةَ يومهم فعملوا حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما فأنتم هُم»‏.‏ فلعل ذلك التمثيل النبوي له اتصال بالرمز إلى عصر الإِسلام في هذه الآية‏.‏

ويجوز أن يفسر العصر في هذه الآية بالزمان كله، قال ابن عطية‏:‏ قال أبي بن كعب‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العصر فقال‏:‏ أقسم ربكم بآخر النهار‏.‏ وهذه المعاني لا يفي باحتمالها غير لفظ العصر‏.‏

ومناسبة القَسَم بالعَصر لغرض السورة على إرادة عصر الإِسلام ظاهرة فإنها بينت حال الناس في عصر الإِسلام بين مَن كفر به ومن آمن واستوفى حظه من الأعمال التي جاء بها الإِسلام، ويعرف منه حالُ من أسلموا وكان في أعمالهم تقصير متفاوت، أما أحوال الأمم التي كانت قبل الإِسلام فكانت مختلفة بحسب مجيء الرسل إلى بعض الأمم، وبقاء بعض الأمم بدون شرائع متمسكة بغير دين الإِسلام من الشرك أو بدين جاء الإِسلام لنسخه مثل اليهودية والنصرانية قال تعالى‏:‏ ‏{‏من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏85‏)‏‏.‏

وتعريف الإنسان‏}‏ تعريف الجنس مراد به الاستغراق وهو استغراق عرفي لأنه يستغرق أفراد النوع الإِنساني الموجودين في زمن نزول الآية وهو زمن ظهور الإِسلام كما علمت قريباً‏.‏ ومخصوص بالناس الذين بلغتهم الدعوة في بلاد العالم على تفاوتها‏.‏ ولما استُثني منه الذين آمنوا وعملوا الصالحات بقي حكمه متحققاً في غير المؤمنين كما سيأتي‏.‏‏.‏‏.‏

والخُسر‏:‏ مصدر وهو ضد الربح في التجارة، استعير هنا لسوء العاقبة لمن يظن لنفسه عاقبةً حسنة، وتلك هي العاقبة الدائمة وهي عاقبة الإِنسان في آخرته من نعيم أو عذاب‏.‏

وقد تقدم في قوله تعالى ‏{‏فما ربحت تجارتهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏16‏)‏ وتكررت نظائره من القرآن آنفاً وبَعيداً‏.‏

والظرفية في قوله‏:‏ لفي خسر‏}‏ مجازية شبهت ملازمة الخسر بإحاطة الظرف بالمظروف فكانت أبلغ من أن يقال‏:‏ إن الإنسان لخاسر‏.‏

ومجيء هذا الخبر على العموم مع تأكيده بالقَسم وحرففِ التوكيد في جوابه، يفيد التهويل والإِنذار بالحالة المحيطة بمعظم الناس‏.‏

وأعقب بالاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين آمنوا‏}‏ الآية فيتقرر الحكم تاماً في نفس السامع مبيناً أن الناس فريقان‏:‏ فريق يلحقه الخسران، وفريق لا يلحقه شيء منه، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يلحقهم الخسران بحال إذا لم يتركوا شيئاً من الصالحات بارتكاب أضدادها وهي السيئات‏.‏

ومن أكبر الأعمال الصالحات التوبة من الذنوب لمقترفيها، فمن تحقق فيه وصف الإِيمان ولم يعمل السيئات أو عملها وتاب منها فقد تحقق له ضد الخسران وهو الربح المجازي، أي حسن عاقبة أمره، وأما من لم يعمل الصالحات ولم يتب من سيئاته فقد تحقق فيه حكم المستثنى منه وهو الخسران‏.‏

وهذا الخسر متفاوت فأعظمه وخالده الخسر المنجر عن انتفاء الإِيمان بوحدانية الله وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ودون ذلك تكونُ مراتب الخسر متفاوتة بحسب كثرة الأعمال السيئة ظاهرها وباطنها‏.‏ وما حدده الإِسلام لذلك من مراتب الأعمال وغفران بعض اللمم إذا ترك صاحبه الكبائر والفواحشَ وهو ما فسر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏‏.‏

وهذا الخبر مراد به الحصول في المستقبل بقرينة مقام الإِنذار والوعيد، أي لفي خسر في الحياة الأبدية الآخرة فلا التفات إلى أحوال الناس في الحياة الدنيا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196، 197‏]‏‏.‏

وتنكير ‏{‏خسر‏}‏ يجوز أن يكون للتنويع، ويجوز أن يكون مفيداً للتعظيم والتعميم في مقام التهويل وفي سياق القسَم‏.‏

والمعنى‏:‏ إن الناس لفي خسران عظيم وهم المشركون‏.‏

والتعريف في قوله‏:‏ ‏{‏الصالحات‏}‏ تعريف الجنس مراد به الاستغراق، أي عملوا جميع الأعمال الصالحة التي أمروا بعملها بأمر الدين وعَمل الصالحات يشمل ترك السيئات‏.‏ وقد أفاد استثناء المتصفين بمضمون الصلة ومعطوفها إيماء إلى علة حكم الاستثناء وهو نقيض الحكم الثابت للمستثنى منه فإنهم ليسوا في خسر لأجل أنهم آمنوا وعملوا الصالحات‏.‏

فأما الإِيمان فهو حقيقة مقُول على جزئياتها بالتواطئ‏.‏ وأما الصالحات فعمومها مقول عليه بالتشكك، فيشير إلى أن انتفاء الخسران عنهم يتقدر بمقدار ما عملوه من الصالحات وفي ذلك مراتب كثيرة‏.‏

وقد دل استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أن يكونوا في خُسر على أن سبب كون بقية الإِنسان في خسر هو عدم الإِيمان والعمل الصالح بدلالة مفهوم الصفة‏.‏ وعُلم من الموصول أن الإِيمان والعمل الصالح هما سبب انتفاء إحاطة الخسر بالإِنسان‏.‏

وعُطف على عَمل الصالحات التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإن كان ذلك من عمل الصالحات، عَطْف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يُغفل عنه، يُظن أن العمل الصالح هو ما أثرُه عمل المرء في خاصته، فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشادَ المسلم غيره ودعوتَه إلى الحق، فالتواصي بالحق يشمل تعليم حقائق الهدى وعقائد الصواب وإراضة النفس على فهمها بفعل المعروف وترك المنكر‏.‏

والتواصي بالصبر عطف على التواصي بالحق عطف الخاص على العام أيضاً وإن كان خصوصه خصوصاً من وجهٍ لأن الصبر تحمَّل مشقة إقامة الحق وما يعترض المسلم من أذى في نفسه في إقامة بعض الحق‏.‏

وحقيقة الصبر أنه‏:‏ منع المرء نفسه من تحصيل ما يشتهيه أو من محاولة تحصيله ‏(‏إن كان صعبَ الحصول فيترك محاولة تحصيله لخوْف ضر ينْشأ عن تناوله كخوف غضب الله أو عقاب ولاة الأمور‏)‏ أو لرغبة في حصول نفع منه ‏(‏كالصبر على مشقة الجهاد والحج رغبة في الثواب والصبر على الأعمال الشاقة رغبة في تحصيل مال أو سمعة أو نحو ذلك‏)‏‏.‏

ومن الصبر الصبر على ما يلاقيه المسلم إذا أمَرَ بالمعروف من امتعاض بعض المأمورين به أو مِن أذاهم بالقول كمن يقول لآمره‏:‏ هَلاّ نظرت في أمر نفسك، أو نحو ذلك‏.‏

وأما تحمل مشقة فعل المنكرات كالصبر على تجشّم السهر في اللهو والمعاصي، والصبر على بشاعة طعم الخمر لشاربها، فليس من الصبر لأن ذلك التحمل منبعث عن رجحان اشتهاء تلك المشقة على كراهية المشقة التي تعترضه في تركها‏.‏

وقل اشتمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر‏}‏ على إقامة المصالح الدينية كلها، فالعقائد الإِسلامية والأخلاق الدينية مندرجة في الحق، والأعمال الصالحة وتجنب السيئات مندرجة في الصبر‏.‏

والتخلق بالصبر ملاك فضائل الأخلاق كلها فإن الارتياض بالأخلاق الحميدة لا يخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة، ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبرَ عليه حتى تصير مكارم الأخلاق ملكه لمن راض نفسه عليها، كما قال عمرو بن العاص‏:‏

إذا المرءُ لم يَترُكْ طعاماً يُحبُّه *** ولم يَنْهَ قلباً غاوياً حيثُ يمَّما

فيوشِك أن تُلفَى له الدَّهرَ سُبّةٌ

إذا ذُكِرَتْ أمثالُها تَمْلأ الفَمَا ***

وكذلك الأعمال الصالحة كلها لا تخلو من إكراه النفس على ترك ما تميل إليه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ حُفَّت الجنة بالمكارِهِ وحُفّت النار بالشهوات ‏"‏‏.‏ وعن علي بن أبي طالب‏:‏ «الصبر مطية لا تكبو»‏.‏

وقد مضى الكلام على الصبر مشبعاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏استعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏45‏)‏‏.‏

وأفادت صيغة التواصي بالحق وبالصبر أن يكون شأن حياة المؤمنين قائماً على شيوع التآمر بهما ديدناً لهم، وذلك يقتضي اتصاف المؤمنين بإقامة الحق وصبرهم على المكاره في مصالح الإِسلام وأمته لما يقتضيه عرف الناس من أن أحداً لا يوصي غيره بملازمة أمر إلا وهو يرى ذلك الأمر خليقاً بالملازمة إذ قلّ أن يُقدم أحد على أمر بحق هو لا يفعله أو أمر بصبر وهو ذو جزع، وقد قال الله تعالى توبيخاً لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 44‏]‏، وقد تقدم هذا المعنى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحاضون على طعام المسكين‏}‏ في سورة الفجر ‏(‏18‏)‏‏.‏

سورة الهمزة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ‏(‏1‏)‏ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ‏(‏2‏)‏ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ‏(‏4‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ‏(‏5‏)‏ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ‏(‏6‏)‏ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏بالصبر‏}‏ ‏{‏أَخْلَدَهُ‏}‏‏.‏

كلمة ‏(‏ويل له‏)‏ دُعاء على المجرور اسمُه باللام بأن يناله الويل وهو سوء الحال كما تقدم غير مرة منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند اللَّه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏79‏)‏‏.‏

والدعاء هنا مستعمل في الوعيد بالعقاب‏.‏

وكلمة ‏(‏كُلّ‏)‏ تشعر بأن المهددين بهذا الوعيد جماعة وهم الذين اتخذوا همز المسلمين ولمزهم ديدناً لهم أولئك الذين تقدم ذكرهم في سبب نزول السورة‏.‏

وهُمَزَة ولُمزة‏:‏ بوزن فُعَلَة صيغة تدل على كثرة صدور الفعل المصاغ منه‏.‏ وأنه صار عادة لصاحبه كقولهم‏:‏ ضُحَكَة لكثير الضحك، ولُعَنَة لكثير اللعن، وأصلها‏:‏ أن صيغة فُعَل بضم ففتح ترد للمبالغة في فَاعل كما صرح به الرضيّ في شرح الكافية‏}‏ يقال‏:‏ رجل حُطَم إذا كان قليل الرحمة للماشية، أي والدواب‏.‏

ومنه قولهم‏:‏ خُتع ‏(‏بخاء معجمة ومثناة فوقية‏)‏ وهو الدليل الماهر بالدلالة على الطريق فإذا أريدت زيادة المبالغة في الوصف أُلحق به الهاء كما أُلحقت في‏:‏ علاّمة ورحَّالة، فيقولون‏:‏ رجل حُطمة وضُحكة ومنه هُمزة، وبتلك المبالغة الثانية يفيد أن ذلك تفاقم منه حتى صار له عادة قد ضري بها كما في «الكشاف»، وقد قالوا‏:‏ إن عُيَبَة مساوٍ لعيابة، فمن الأمثلة ما سمع فيه الوصف بصيغتي فُعَل وفُعَلَة نحو حُطم وحطمة بدون هاء وبهاء، ومن الأمثلة ما سمع فيه فُعلة دون فُعل نحو رجل ضُحَكة، ومن الأمثلة ما سمع فيه فُعَل دون فُعَلَة وذلك في الشتم مع حرف النداء يا غُدَر ويا فُسق ويا خُبَث ويا لُكع‏.‏

قال المرادي في «شرح التسهيل» قال‏:‏ بعضهم ولم يسمع غيرها ولا يقاس عليها، وعن سيبويه أنه أجاز القياس عليها في النداء اه‏.‏ قلت‏:‏ وعلى قول سيبويه بنى الحريري قوله في «المقامة السابعة والثلاثين»‏:‏ «صَهْ يا عُقَق، يا من هو الشّجَا والشَرَق»‏.‏

وهُمزة‏:‏ وصف مشتق من الهَمز‏.‏ وهو أن يعيب أحدٌ أحداً بالإِشارة بالعين أو بالشِّدق أو بالرأس بحضرته أو عند توليه، ويقال‏:‏ هَامز وهمَّاز، وصيغة فُعلة يدل على تمكن الوصف من الموصوف‏.‏

ووقع ‏{‏همزة‏}‏ وصفاً لمحذوف تقديره‏:‏ ويل لكل شَخْص هُمزة، فلما حذف موصُوفه صار الوصف قائماً مقامه فأضيف إليه ‏(‏كُلّ‏)‏‏.‏

ولمزة‏:‏ وصف مشتق من اللمز وهو المواجعة بالعيب، وصيغته دالة على أن ذلك الوصف ملكة لصاحبه كما في هُمزة‏.‏

وهذان الوصفان من معاملة أهل الشرك للمؤمنين يومئذ، ومَن عامَلَ من المسلمين أحداً من أهل دينه بمثل ذلك كان له نصيب من هذا الوعيد‏.‏

فمن اتصف بشيء من هذا الخُلق الذميم من المسلمين مع أهل دينه فإنها خصلة من خصال أهل الشرك‏.‏ وهي ذميمة تدخل في أذى المسلم وله مراتب كثيرة بحسب قوة الأذى وتكرره ولم يُعد من الكبائر إلا ضربُ المسلم‏.‏

وسبُّ الصحابة رضي الله عنهم وإدمان هذا الأذى بأن يتخذه ديدناً فهو راجع إلى إدمان الصغائر وهو معدود من الكبائر‏.‏

وأتبع ‏{‏الذي جمع مالاً وعدده‏}‏ لزيادة تشنيع صفتيه الذميمتين بصفة الحرص على المال‏.‏ وإنما ينشأ ذلك عن بخل النفس والتخوف من الفقر، والمقصود من ذلك دخول أولئك الذين عُرفوا بهمز المسلمين ولمزهم الذين قيل إنهم سبب نزول السورة لتعيينهم في هذا الوعيد‏.‏

واسم الموصول من قوله‏:‏ ‏{‏الذي جمع مالاً‏}‏ نعت آخر ولم يعطف ‏{‏الذي‏}‏ بالواو لأن ذكر الأوصاف المتعددة للموصوف الواحد يجوز أن يكون بدون عطف نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 10 13‏]‏‏.‏

والمال‏:‏ مكاسب الإِنسان التي تنفعه وتكفي مؤونة حاجته من طعام ولباس وما يتخذ منه ذلك كالأنعام والأشجار ذات الثمار المثمرة‏.‏ وقد غلب لفظ المال في كل قوم من العرب على ما هو الكثير من مشمولاتهم فغلب اسم المال بين أهل الخيام على الإِبل قال زهير‏:‏

فكُلاّ أراهم أصبحوا يعقلونه *** صحيحاتتِ مال طالعات بمخرم

يريد إبل الدية ولذلك قال‏:‏ طالعات بمخرم‏.‏

وهو عند أهل القرى الذين يتخذون الحوائط يغلب على النخل يقولون خرج فلان إلى مَاله، أي إلى جناته، وفي كلام أبي هريرة‏:‏ ‏"‏ وإن أخواني الأنصار شغلهم العمل في أموالهم ‏"‏ وقال أبو طلحة‏:‏ «وإن أحب أموالي إليَّ بئرُ حاء»‏.‏

وغلب عند أهل مكة على الدراهم لأن أهل مكة أهل تجر ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس‏:‏ ‏"‏ أينَ المال الذي عند أم الفضل ‏"‏‏.‏

وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ سورة آل عمران ‏(‏92‏)‏‏.‏

ومعنى‏:‏ عدده‏}‏ أكْثر من عدِّه، أي حسابه لشدة ولعه بجمعه فالتضعيف للمبالغة في ‏(‏عدَّ‏)‏ ومعاودته‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏جمع مالاً‏}‏ بتخفيف الميم، وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورويس عن يعقوب وخلفٌ بتشديد الميم مزاوجاً لقوله‏:‏ ‏{‏عدده‏}‏ وهو مبالغة في ‏{‏جمع‏}‏‏.‏ وعلى قراءة الجمهور دل تضعيف ‏{‏عدده‏}‏ على معنى تكلف جمعه بطريق الكناية لأنه لا يكرر عده إلا ليزيد جمعه‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏عدده‏}‏ بمعنى أكثر إعداده، أي إعداد أنواعه فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يحسب أن ماله أخلده‏}‏ يجوز أن تكون حالاً من هُمَزة فيكون مستعملاً في التَّهكم عليه في حرصه على جمع المال وتعديده لأنه لا يُوجد من يَحْسب أن ماله يُخلده، فيكون الكلام من قبيل التمثيل، أو تكون الحال مراداً بها التشبيه وهو تشبيه بليغ‏.‏

ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والخبر مستعملاً في الإِنكار، أو على تقدير همزة استفهام محذوفة مستعملاً في التهكم أو التعجيب‏.‏

وجيء بصيغة المضي في ‏{‏أخلده‏}‏ لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لتحققه عنده، وذلك زيادة في التهكم به بأنه موقن بأن ماله يخلده حتى كأنه حصل إخلاده وثبت‏.‏

والهَمزة في ‏{‏أخلده‏}‏ للتعدية، أي جعله خالداً‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يحسِب‏}‏ بكسر السين‏.‏ وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر بفتح السين وهما لغتان‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ أن الذين جمعوا المال يشبه حالهم حال من يحسب أن المال يقيهم الموت ويجعلهم خالدين لأن الخلود في الدنيا أقصى متمناهم إذ لا يؤمنون بحياة أخرى خالدة‏.‏

و ‏{‏كلاّ‏}‏ إبطال لأن يكون المال مُخلدّاً لهم‏.‏ وزجر عن التلبس بالحالة الشنيعة التي جعلتهم في حال من يحسب أن المال يخلد صاحبه، أو إبطال للحرص في جمع المال جمعاً يمنع به حقوق الله في المال من نفقات وزكاة‏.‏

‏{‏كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِى‏}‏ ‏{‏الحطمة * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة * نَارُ الله الموقدة * التى تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة‏}‏‏.‏

استئناف بياني ناشئ عن ما تضمنته جملة‏:‏ ‏{‏يحسب أن ماله أخلده‏}‏ من التهكم والإِنكار، وما أفاده حرف الزجر من معنى التوعد‏.‏

والمعنى‏:‏ ليَهْلِكَنَّ فَليُنْبَذَنَّ في الحُطمة‏.‏

واللام جواب قسم محذوف‏.‏ والضمير عائد إلى الهمزة‏.‏

والنبذ‏:‏ الإِلقاء والطرح، وأكثر استعماله في إلقاء ما يكره‏.‏ قال صاحب «الكشاف» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 40‏]‏ شبههم استحقاراً لهم بحَصَيات أخذَهُن آخذٌ بكفه فطرحهن اه‏.‏

والحُطمة‏:‏ صفة بوزن فُعَلَة، مثل ما تقدم في الهُمزة، أي لينبذن في شيء يحطمه، أي يكسره ويدقه‏.‏

والظاهر أن اللام لتعريف العهد لأنه اعتبر الوصف علماً بالغلبة على شيء يحطم وأريد بذلك جهنم، وأن إطلاق هذا الوصف على جهنم من مصطلحات القرآن‏.‏ وليس في كلام العرب إطلاق هذا الوصف على النار‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما الحطمة‏}‏ في موضع الحال من قوله‏:‏ ‏{‏الحطمة‏}‏ والرابط إعادة لفظ الحطمة، وذلك إظهار في مقام الإِضمار للتهويل كقوله‏:‏ ‏{‏الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 1 3‏]‏ وما فيها من الاستفهام، وفعل الدراية يفيد تهويل الحطمة، وقد تقدم ‏{‏ما أدراك‏}‏ غير مرة منها عند قوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما يوم الدين‏}‏ في سورة الانفطار ‏(‏17‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ نار الله الموقدة‏}‏ جواب عن جملة ‏{‏وما أدراك ما الحطمة‏}‏ مفيد مجموعهما بيان الحطمة ما هي، وموقع الجملة موقع الاستئناف البياني، والتقدير هي، أي الحطمة نار الله، فحُذف المبتدأ من الجملة جرياً على طريقة استعمال أمثاله من كل إخبار عن شيء بعد تقدم حديث عنه وأوصاف له، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صم بكم عمي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏18‏)‏‏.‏

وإضافة نار‏}‏ إلى اسم الجلالة للترويع بها بأنها نار خلقها القادر على خلق الأمور العظيمة‏.‏

ووصف ‏{‏نار‏}‏ ب«موقدة»، وهو اسم مفعول من‏:‏ أوقد النار، إذا أشعلها وألهبَها‏.‏ والتوقد‏:‏ ابتداء التهاب النار فإذا صارت جمراً فقد خفّ لهبها، أو زال، فوصف ‏{‏نار‏}‏ ب«موقدة» يفيد أنها لا تزال تلتهب ولا يزول لهيبها‏.‏

وهذا كما وُصفت نار الأخدود بذات الوَقود ‏(‏بفتح الواو‏)‏ في سورة البروج، أي النار التي يُجدد اتقادها بوقود وَهو الحَطب الذي يُلقَى في النار لتتقد فليس الوصف بالموقَدة هنا تأكيداً‏.‏

ووصفت ‏{‏نار اللَّه‏}‏ وصفاً ثانياً ب ‏{‏التي تطلع على الأفئدة‏}‏‏.‏

والاطلاع يجوز أن يكون بمعنى الإِتيان مبالغة في طلع، أي الإِتيان السريع بقوة واستيلاء، فالمعنى‏:‏ التي تنفذ إلى الأفئدة فتحرقها في وقت حرق ظاهر الجسد‏.‏

وأن يكون بمعنى الكشف والمشاهدة قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاطلع فرآه في سواء الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 55‏]‏ فيفيد أن النار تحرق الأفئدة إحراق العالِم بما تحتوي عليه الأفئدة من الكفر فتصيب كل فؤاد بما هو كِفاؤه من شدة الحرق على حسب مبلغ سوء اعتقاده، وذلك بتقدير من الله بين شدة النار وقابلية المتأثر بها لا يعلمه إلا مُقدِّره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏8‏)‏ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

هذه جملة يجوز أن تكون صفة ثالثة ل ‏{‏نار اللَّه‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 6‏]‏ بدون عاطف، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وتأكيدها ب ‏(‏إنّ‏)‏ لتهويل الوعيد بما ينفي عنه احتمالَ المجاز أو المبالغة‏.‏

وموصدة‏:‏ اسم مفعول من أوصد الباب، إذا أغلقه غلقاً مطبقاً‏.‏ ويقال‏:‏ آاصد بهمزتين إحداهما أصلية والأخرى همزة التعدية، ويقال‏:‏ أصَدَ الباب فعلاً ثلاثياً، ولا يقال‏:‏ وصَد بالواو بمعنى أغلق‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏موصدة‏}‏ بواو بعد الميم على تخفيف الهمزة، وقرأه أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزة ساكنة بعد الميم المضمومة‏.‏

ومعنى إيصادها عليهم‏:‏ ملازمة العذاب واليأسُ من الإِفلات منه كحال المساجين الذين أغلق عليهم باب السجن تمثيلَ تقريب لشدة العذاب بما هو متعارف في أحوال الناس، وحالُ عذاب جهنم أشد مما يبلغه تصور العقول المعتاد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في عمد ممددة‏}‏ حال‏:‏ إما من ضمير ‏{‏عليهم‏}‏ أي في حال كونهم في عَمَد، أي موثوقين في عمد كما يوثق المسجون المغلظ عليه من رجليه في فَلْقَة ذاتتِ ثَقب يدخل في رجله أو في عنقه كالقرام‏.‏ وإمّا حال من ضمير ‏{‏إنها‏}‏، أي أن النار الموقدة في عمد، أي متوسطة عَمداً كما تكون نار الشواء إذ توضع عَمَد وتجعل النار تحتها تمثيلاً لأهلها بالشواء‏.‏

و ‏{‏عمد‏}‏ قرأه الجمهور بفتحتين على أنه اسم جمع عمود مثل‏:‏ أديم وأدم‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف «عُمَد» بضمتين وهو جمع عمود، والعمود‏:‏ خشبة غليظة مستطيلة‏.‏

والممدَّدة‏:‏ المجعولة طويلة جدّاً، وهو اسم مفعول من مدده، إذا بالغ في مده، أي الزيادة فيه‏.‏

وكل هذه الأوصاف تقوية لتمثيل شدة الإِغلاظ عليهم بأقصى ما يبلغه متعارف الناس من الأحوال‏.‏

سورة الفيل

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

استفهام تقريري وقد بيّنّا غير مرة أن الاستفهام التقريري كثيراً ما يكون على نفي المقرَّر بإثباته للثقة بأن المقرَّر لا يسعه إلا إثبات المنفي وانظر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏243‏)‏‏.‏ والاستفهام التقريري هنا مجاز بعلاقة اللزوم وهو مجاز كثر استعماله في كلامهم فصار كالحقيقة لشهرته‏.‏ وعليه فالتقرير مستعمل مجازاً في التكريم إشارة إلى أن ذلك كان إرهاصاً للنبيء فيكون من باب قوله‏:‏ ‏{‏لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 1، 2‏]‏، وفيه مع ذلك تعريض بكفران قريش نعمة عظيمة من نعم الله عليهم إذ لم يزالوا يعبدون غيره‏.‏

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه قوله‏:‏ ‏{‏ربك‏}‏‏.‏ فمهيع هذه الآية شبيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يجدك يتيماً فآوى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 6‏]‏ الآيات وقوله‏:‏ ‏{‏لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 1، 2‏]‏ على أحد الوجوه المتقدمة‏.‏

فالرؤية يجوز أن تكون مجازية مستعارة للعلم البالغ من اليقين حد الأمر المرئي لتواتر ما فعل الله بأصحاب الفيل بين أهل مكة وبقاء بعض آثار ذلك يشاهدونه‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ رأيت في بيت أم هاني بنتتِ أبي طالب نحواً من قفيزين من تلك الحجارة سُوداً مخططة بحمرة‏.‏ وقال عتاب بن أسِيدْ‏:‏ أدركت سائس الفيل وقائده أعميين مُقْعَدين يستطعمان الناس‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ لقد رأيْتُ قائد الفيل وسائقه أعمَيين يستطعمان الناس‏.‏ وفعل الرؤية معلق بالاستفهام‏.‏

ويجوز أن تكون الرؤية بصرية بالنسبة لمن تجاوز سنهُ نيفاً وخمسين سنة عند نزول الآية ممن شهد حادث الفيل غلاماً أو فتى مثل أبي قحافة وأبي طالب وأبي بن خلف‏.‏

و ‏{‏كيف‏}‏ للاستفهام سَدّ مسدّ مفعوليْ أو مفعول ‏{‏تَر‏}‏، أي لم تر جواب هذا الاستفهام، كما تقول‏:‏ علمتُ هل زيد قائم‏؟‏ وهو نصب على الحال من فاعل ‏{‏تَر‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏كيف‏}‏ مجرداً عن معنى الاستفهام مراداً منه مجرد الكيفية فيكون نصباً على المفعول به‏.‏

وإيثار ‏{‏كيف‏}‏ دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول فلم يقل‏:‏ ألم تر ما فعل ربك، أو الذي فعل ربك، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة‏.‏

وأوثر لفظ ‏{‏فعل ربك‏}‏ دون غيره لأن مدلول هذا الفعل يعم أعمالاً كثيرة لا يدل عليها غيره‏.‏

وجيء في تعريف الله سبحانه بوصف ‏(‏رب‏)‏ مضافاً إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود من التذكير بهذه القصة تكريم النبي صلى الله عليه وسلم إرهاصاً لنبوءته إذ كان ذلك عام مولده‏.‏

وأصحاب الفيل‏:‏ الحَبشة الذين جاءوا مكة غازين مضمِرين هدم الكعبة انتقاماً من العرب من أجل ما فعله أحد بني كنانة الذين كانوا أصحاب النسيء في أشهر الحج‏.‏

وكان خبر ذلك وسببه أن الحبشة قد ملكوا اليمن بعد واقعة الأخدود التي عَذَّب فيها الملكُ ذو نواس النصارى، وصار أمير الحبشة على اليمن رجلاً يقال له‏:‏ ‏(‏أبرهة‏)‏ وأن أبرهة بنى كنيسة عظيمة في صنعاء دعاها القَلِيس ‏(‏بفتح القاف وكسر اللام بعدما تحتية ساكنة، وبعضهم يقولها بضم القاف وفتح اللام وسكون التحتية‏)‏‏.‏ وفي «القاموس» بضم القاف وتشديد اللام مفتوحة وسكون الياء‏.‏ وكتبه السهيلي بنون بعد اللام ولم يضبطه وزعم أنه اسم مأخوذ من معاني القَلْس للارتفاع‏.‏ ومنه القلنسوة واقتصر على ذلك ولم أعرف أصل هذا اللفظ فإما أن يكون اسم جنس للكنيسة ولعل لفظ كنيسة في العربية معرّب منه، وإما أن يكون علماً وضعوه لهذه الكنيسة الخاصة وأراد أن يصرف حج العرب إليها دون الكعبة فروي أن رجلاً من بني فُقَيم من بني كنانة وكانوا أهل النسيء للعرب كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما النسيء زيادة في الكفر‏}‏ في سورة براءة ‏(‏37‏)‏، قَصد الكنانيُّ صنعاء حتى جاء القليس فأحدث فيها تحقيراً لها ليتسامَعَ العربُ بذلك فغضب أبرهة وأزمع غزو مكة ليهدم الكعبة وسار حتى نزل خارج مكة ليلاً بمكان يقال له المُغَمَّس ‏(‏كمعظم موضع قرب مكة في طريق الطائف‏)‏ أو ذو الغميس ‏(‏لم أر ضبطه‏)‏ وأرسل إلى عبد المطلب ليحذره من أن يحاربوه وجرى بينهما كلام، وأمر عبد المطلب آله وجميع أهل مكة بالخروج منها إلى الجبال المحيطة بها خشية من معرة الجيش إذا دخلوا مكة‏.‏ فلما أصبح هيّأ جَيْشه لدخول مكة وكان أبرهة راكباً فيلاً وجيشه معه فبينا هو يَتهيّأ لذلك إذ أصاب جنده داء عضال هو الجُدريّ الفتاك يتساقط منه الأنامل، ورأوا قبل ذلك طيراً ترميهم بحجارة لا تصيب أحداً إلا هلك وهي طير من جند الله فهلك معظم الجيش وأدبر بعضهم ومرض ‏(‏أبرهة‏)‏ فقفل راجعاً إلى صنعاء مريضاً، فهلك في صنعاء وكفى الله أهل مكة أمر عدوّهم‏.‏ وكان ذلك في شهر محرم الموافق لشهر شباط ‏(‏فبراير‏)‏ سنة 570 بعد ميلاد عيسى عليه السلام، وبعد هذا الحادث بخمسين يوماً ولد النبي على أصح الأخبار وفيها اختلاف كثير‏.‏

والتعريف في الفيل‏}‏ للعهد، وهو فيل أبرهة قائد الجيش كما قالوا للجيش الذي خرج مع عائشة أم المؤمنين أصحاب الجَمل يريدون الجمل الذي كانت عليه عائشة، مع أن في الجيش جمالاً أخرى‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن جيش أبرهة لم يكن فيه إلا فيل واحد، وهو فيل أبرهة، وكان اسمه محمود‏.‏ وقيل‏:‏ كان فيه فِيَلَة أخرى، قيل ثمانية وقيل‏:‏ اثنا عشر‏.‏ وقال بعضٌ‏:‏ ألف فيل‏.‏ ووقع في رجز ينسب إلى عبد المطلب‏:‏

أنتَ منعتَ الحُبْشَ والأفْيالا ***

فيكون التعريف تعريف الجنس ويكون العهد مستفاداً من الإِضافة‏.‏

والفيل‏:‏ حيوان عظيم من ذوات الأربع ذواتتِ الخف، من حيوان البلاد الحارة ذات الأنهار من الهند والصين والحبشة والسودان، ولا يوجد في غير ذلك إلا مجلوباً، وهو ذكي قابل للتأنس والتربية، ضخم الجثة أضخم من البعير، وأعلى منه بقليل وأكثر لحماً وأكبر بطناً‏.‏

وخف رجله يشبه خف البعير وعنقه قصير جداً له خرطوم طويل هو أنفه يتناول به طعامه وينتشق به الماء فيفرغه في فيه ويدافع به عن نفسه يختطف به ويلويه على ما يريد أذاه من الحيوان، ويلقيه على الأرض ويدوسه بقوائمه‏.‏ وفي عينيه خزر وأذناه كبيرتان مسترخيتان، وذَنبه قصير أقصر من ذنب البعير وقوائمه غليظة‏.‏ ومناسمه كمناسم البعير وللذكر منه نابان طويلان بارزان من فمه يتخِذ الناس منها العاجَ‏.‏ وجلده أجرد مثل جلد البقر، أصهب اللون قاتم كلون الفار ويكون منه الأبيض الجلد‏.‏ وهو مركوبٌ وحاملُ أثقال وأهل الهند والصين يجعلون الفيل كالحصن في الحرب يجعلون محفة على ظهره تسع ستة جنود‏.‏ ولم يكن الفيل معروفاً عند العرب فلذلك قلّ أن يُذكر في كلامهم وأول فيل دخل بلاد العرب هو الفيل المذكور في هذه السورة‏.‏

وقد ذكرت أشعار لهم في ذكر هذه الحادثة في السيرة‏.‏ ولكن العرب كانوا يسمعون أخبار الفيل ويتخيلونه عظيماً قوياً، قال لبيد‏:‏

ومقاممٍ ضيِّق فرَّجْتُه *** ببياننٍ ولسان وجَدل

لو يقومُ الفيلُ أوفَيَّالُه *** زل عن مثل مقامي ورحل

وقال كَعب بن زهير في قصيدته‏:‏

لقَدْ أقومُ مقاماً لو يقوم به *** أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل

لظلَّ يَرْعد إلا أنْ يكون له *** من الرسول بإذن الله تنويل

وكنت رأيْتُ أنّ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ قال إن أمه أرته أو حدثته أنها رأت روث الفيل بمكة حول الكعبة ولعلهم تركوا إزالته ليبقى تذكرة‏.‏

وعن عائشة وعتاب بن أسيد‏:‏ رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس‏.‏

والمعنى‏:‏ ألم تعلم الحالة العجيبة التي فعلها الله بأصحاب الفيل، فهذا تقرير على إجمال يفسره ما بعده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 5‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ‏(‏2‏)‏ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ‏(‏3‏)‏ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

هذه الجمل بيان لما في جملة ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك‏}‏ ‏[‏الفيل‏:‏ 1‏]‏ من الإِجمال‏.‏ وسمى حربهم كيداً لأنه عمل ظاهره الغضب من فعل الكناني الذي قعد في القليس‏.‏ وإنما هو تعلة تعللوا بها لإِيجاد سبب لحرب أهل مكة وهدم الكعبة لينصرف العرب إلى حجّ القليس في صنعاء فيتنصّروا‏.‏

أو أريد بكيدهم بناؤهم القليس مظهرين أنهم بنوا كنيسة وهم يريدون أن يبطلوا الحج إلى الكعبة ويصرفوا العرب إلى صنعاء‏.‏

والكَيد‏:‏ الاحتيال على إلحاق ضر بالغير ومعالجة إيقاعه‏.‏

والتضليل‏:‏ جعل الغير ضالاً، أي لا يهتدي لمراده وهو هنا مجاز في الإِبطال وعدم نوال المقصود لأن ضلال الطريق عدم وصول السائر‏.‏

وظرفية الكيد في التضليل مجازية، استعير حرف الظرفية لمعنى المصاحبة الشديدة، أي أبطل كيدهم بتضليل، أي مصاحباً للتضليل لا يفارقه، والمعنى‏:‏ أنه أبطله إبطالاً شديداً إذ لم ينتفعوا بقوتهم مع ضعف أهل مكة وقلة عددهم‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كيد فرعون إلا في تباب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 37‏]‏ أي ضياع وتلف، وقد شمل تضليلُ كيدهم جميعَ ما حلّ بهم من أسباب الخيبة وسوء المنقلب‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وأرسل عليهم طيراً أبابيل‏}‏ يجوز أن تجعل معطوفة على جملة ‏{‏فَعَل ربك بأصحاب الفيل‏}‏ ‏[‏الفيل‏:‏ 1‏]‏، أي وكيف أرسل عليهم طيراً من صفتها كَيْت وكَيْت، فبعد أن وقع التقرير على ما فَعل الله بهم من تضليل كيدهم عطف عليه تقرير بعلم ما سُلط عليهم من العقاب على كيدهم تذكيراً بما حلّ بهم من نقمة الله تعالى، لقصدهم تخريب الكعبة، فذلك من عناية الله ببيته لإظهار توطئته لبعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بدينه في ذلك البلد، إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، فكما كان إرسال الطير عليهم من أسباب تضليل كيدهم، كان فيه جزاء لهم، ليعلموا أن الله مانع بيته، وتكون جملة‏:‏ ‏{‏ألم يجعل كيدهم في تضليل‏}‏ معترضة بين الجملتين المتعاطفتين‏.‏

ويجوز أن تجعل ‏{‏وأرسل عليهم‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏ألم يجعل كيدهم في تضليل‏}‏ فيكون داخلاً في حيز التقرير الثاني بأن الله جعل كيدهم في تضليل، وخص ذلك بالذكر لجمعه بين كونه مبطلاً لكيدهم وكونه عقوبة لهم، ومَجيئهُ بلفظ الماضي باعتبار أن المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏ألم يجعل كيدهم في تضليل‏}‏ قُلب زمانه إلى المضي لدخول حرف ‏{‏لم‏}‏ كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى‏}‏ في سورة الضحى ‏(‏6، 7‏)‏، فكأنه قيل‏:‏ أليس جعَل كيدهم في تضليل‏.‏

والطير‏:‏ اسم جمع طائر، وهو الحيوان الذي يرتفع في الجو بعمل جناحيه‏.‏ وتنكيره للنوعية لأنه نوع لم يكن معروفاً عند العرب‏.‏ وقد اختلف القصّاصون في صفته اختلافاً خيالياً‏.‏ والصحيح ما رُوي عن عائشة‏:‏ أنها أشبه شيء بالخطاطيف، وعن غيرها أنها تشبه الوطواط‏.‏

وأبابيل‏}‏‏:‏ جماعات‏.‏ قال الفراء وأبو عبيدة‏:‏ أبابيل اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل عباديد وشماطيط وتبعهما الجوهري، وقال الرُّؤَاسي والزمخشري‏:‏ واحد أبابيل إبَّالة مشددة الموحدة مكسورة الهمزة‏.‏ ومنه قولهم في المثل‏:‏ «ضِغث على إبّالة» وهي الحزمة الكبيرة من الحطب‏.‏ وعليه فوصف الطير بأبابيل على وجه التشبيه البليغ‏.‏

وجملة ‏{‏ترميهم‏}‏ حال من ‏{‏طيراً‏}‏ وجيء بصيغة المضارع لاستحضار الحالة بحيث تخيل للسامع كالحادثة في زمن الحال ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللَّه الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏ الآية‏.‏

وحجارة‏:‏ اسم جمع حَجر‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ طين في حجارة، وعنه أن سجيل معرب سَنْك كِلْ من الفارسية، أي عن كلمة ‏(‏سنك‏)‏ وضبط بفتح السين وسكون النون وكسر الكاف اسم الحجر وكلمة ‏(‏كلْ‏)‏ بكسر الكاف اسم الطين ومجموع الكلمتين يراد به الآجُر‏.‏

وكلتا الكلمتين بالكاف الفارسية المعمّدة وهي بين مخرج الكاف ومخرج القاف، ولذلك تكون ‏{‏من‏}‏ بيانية، أي حجارة هي سجيل، وقد عد السبكي كلمة سجيل في «منظومته في المعرَّب الواقع في القرآن»‏.‏

وقد أشار إلى أصل معناه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنرسل عليهم حجارة من طين‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 33‏]‏ مع قوله في آيات أُخر ‏{‏حجارة من سجيل‏}‏ فعلم أنه حجر أصله طين‏.‏

وجاء نظيره في قصة قوم لوط في سورة هود ‏(‏82‏)‏‏:‏ ‏{‏وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود‏}‏ وفي سورة الحجر ‏(‏74‏)‏‏:‏ فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل فتعين أن تكون الحجارة التي أرسلت على أصحاب الفيل من جنس الحجارة التي أمطرت على قوم لوط، أي ليست حجراً صخرياً ولكنها طين متحجر دلالة على أنها مخلوقة لعذابهم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كانَ الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده فكان ذلك أول الجُدري‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ إذا أصاب أحدَهم حجر منها خرج به الجدري‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن الجدري لم يكن معروفاً في مكة قبل ذلك‏.‏

وروي أن الحجر كان قدر الحِمَّص‏.‏ روى أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية الديلمي قال‏:‏ رأيت الحصَى التي رمي بها أصحاب الفيل حصى مثل الحمص حمراً بحُتْمَة ‏(‏أي سواد‏)‏ كأنها جِزع ظَفَارِ‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ أنه رأى من هذه الحجارة عند أم هاني نحو قفيز مخططة بحُمرة بالجزع الظَّفاري‏.‏

والعصف‏:‏ ورق الزرع وهو جمع عَصْفة‏.‏ والعصف إذا دخلته البهائم فأكلته داسته بأرجلها وأكلت أطرافه وطرحته على الأرض بعد أن كان أخضر يانعاً‏.‏ وهذا تمثيل لحال أصحاب الفيل بعد تلك النضرة والقوة كيف صاروا متساقطين على الأرض هالكين‏.‏

سورة قريش

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ‏(‏1‏)‏ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ‏(‏2‏)‏ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ‏(‏3‏)‏ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

افتتاح مُبدع إذ كان بمجرور بلام التعليل وليس بإثْره بالقرب ما يصلح للتعليق به ففيه تشويق إلى متعلق هذا المجرور‏.‏ وزاده الطول تشويقاً إذ فصل بينه وبين متعلَّقه ‏(‏بالفتح‏)‏ بخمس كلمات، فيتعلق ‏{‏لإيلاف‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏فليعبدوا‏}‏‏.‏

وتقديم هذا المجرور للاهتمام به إذ هو من أسباب أمرهم بعبادة الله التي أعرضوا عنها بعبادة الأصنام والمجرور متعلق بفعل «ليعبدوا»‏.‏

وأصل نظم الكلام‏:‏ لتَعْبُدْ قريشٌ ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فلما اقتضى قصدُ الاهتمام بالمعمول تقديمه على عامله، تولَّدَ من تقديمه معنى جعله شرطاً لعامله فاقترن عامله بالفاء التي هي من شأن جواب الشرط، فالفاء الداخلة في قوله‏:‏ ‏{‏فليعبدوا‏}‏ مؤذنة بأن ما قبلها في قوة الشرط، أي مؤذنة بأن تقديم المعمول مقصود به اهتمام خاص وعناية قوية هي عناية المشترط بشرطه، وتعليق بقية كلامه عليه لما ينتظره من جوابه، وهذا أسلوب من الإِيجاز بديع‏.‏

قال في «الكشاف»‏:‏ دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى إمَّا لاَ فليعبدوه لإِيلافهم، أي أن نعم الله عليهم لا تحصى فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة اه‏.‏

وقال الزجاج في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربك فكبر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 3‏]‏ دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل‏:‏ وما كان فلا تَدَعْ تكبيره اه‏.‏ وهو معنى ما في «الكشاف»‏.‏ وسكتا عن منشإ حصول معنى الشرط وذلك أن مثل هذا جار عند تقديم الجار والمجرور، ونحوه من متعلقات الفعل وانظر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإياي فارهبون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏40‏)‏، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبذلك فليفرحوا‏}‏ في سورة يونس ‏(‏58‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلذلك فادع واستقم‏}‏ في سورة الشورى ‏(‏15‏)‏‏.‏ وقول النبي للذي سأله عن الجهاد فقال له‏:‏ ألك أبوان‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ففيهما فجاهدْ‏.‏

ويجوز أن تجعل اللام متعلقة بفعل ‏(‏اعْجَبوا‏)‏ محذوفاً ينبئ عنه اللام لكثرة وقوع مجرور بها بعد مادة التعجب، يقال‏:‏ عجباً لك، وعجباً لتلك قضية، ومنه قول امرئ القيس‏:‏ فيا لَكَ من ليل لأن حرف النداء مراد به التعجب فتكون الفاء في قوله‏:‏ فليعبدوا‏}‏ تفريعاً على التعجيب‏.‏

وجوّز الفراء وابن إسحاق في «السيرة» أن يكون ‏{‏لإيلاف قريش‏}‏ متعلقاً بما في سورة الفيل ‏(‏5‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فجعلهم كعصف مأكول‏}‏ قال القرطبي‏:‏ وهو معنى قول مجاهد ورواية ابن جبير عن ابن عباس‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وهذا بمنزلة التضمين في الشعر وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلاّ به ا ه‏.‏ يعنون أن هذه السورة وإن كانت سورة مستقلة فهي ملحقة بسورة الفيل فكما تُلحق الآية بآية نزلت قبلها، تلحق آيات هي سورة فتتعلق بسورة نزلت قبلها‏.‏

والإِيلاف‏:‏ مصدر أألف بهمزتين بمعنى ألف وهما لغتان، والأصل هو ألف، وصيغة الإِفعال فيه للمبالغة لأن أصلها أن تدل على حصول الفعل من الجانبين، فصارت تستعمل في إفادة قوة الفعل مجازاً، ثم شاع ذلك في بعض الأفعال حتى ساوى الحقيقة مثل سَافَر، وعافَاه الله، وقاتَلَهُم الله‏.‏

وقرأه الجمهور في الموضعين لإيلاف‏}‏ بياء بعد الهمزة وهي تخفيف للهمزة الثانية‏.‏ وقرأ ابن عامر «لإلاف» الأول بحذف الياء التي أصلها همزة ثانية، وقرأه ‏{‏إيلافهم‏}‏ بإثبات الياء مثل الجمهور‏.‏ وقرأ أبو جعفر «لِيلاَف قريش» بحذف الهمزة الأولى‏.‏ وقرأ «إلافهم» بهمزة مكسورة من غير ياء‏.‏

وذكر ابن عطية والقرطبي أن أبا بكر عن عاصم قرأ بتحقيق الهمزتين في «لإِأَلاَفِ» وفي «إِأَلافهم»، وذكر ابن عطية عن أبي علي الفارسي أن تحقيق الهمزتين لا وجه له‏.‏ قلت‏:‏ لا يوجد في كتب القراءات التي عرفناها نسبة هذه القراءة إلى أبي بكر عن عاصم‏.‏ والمعروف أن عاصماً موافق للجمهور في جعل ثانية الهمزتين ياء، فهذه رواية ضعيفة عن أبي بكر عن عاصم‏.‏

وقد كُتب في المصحف «إلافهم» بدون ياء بعد الهمزة وأما الألف المدّة التي بعد اللام التي هي عين الكلمة فلم تكتب في الكلمتين في المصحف على عادة أكثر المدَّات مثلها، والقراءات روايات وليس خط المصحف إلا كالتذكرة للقارئ، ورسم المصحف سُنّة متَّبعة سنَّها الصحابة الذين عُيّنوا لنسخ المصاحف وإضافة «إيلاف» إلى ‏{‏قريش‏}‏ على معنى إضافة المصدر إلى فاعله وحذف مفعوله لأنه هنا أطلق بالمعنى الاسمي لتلك العادة فهي إضافة معنوية بتقدير اللام‏.‏

وقريش‏:‏ لقب الجد الذي يجمع بطوناً كثيرة وهو فهر بن مالك بن النضر بن كِنانة‏.‏ هذا قول جمهور النّسابين وما فوق فِهر فهم من كنانة، ولُقِّب فهرٌ بلقب قريش بصيغة التصغير وهو على الصحيح تصغير قَرْش ‏(‏بفتح القاف وسكون الراء وشين معجمة‏)‏ اسم نوع من الحوت قوي يعدو على الحيتان وعلى السفن‏.‏

وقال بعض النسابين‏:‏ إن قريشاً لقب النضر بن كنانة‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنه سئل منْ قريشٌ‏؟‏ فقال‏:‏ مَنْ وَلَدَ النضْرُ ‏"‏‏.‏ وفي رواية أنه قال‏:‏ ‏"‏ إنّا وَلَدُ النضر بن كنانة لا نقفو أمَّنا ولا ننتفي من أبينا ‏"‏‏.‏ فجميع أهل مكة هم قريش وفيهم كانت مناصب أهل مكة في الجاهلية موزعة بينهم وكانت بنو كنانة بخِيف منى‏.‏ ولهم مناصب في أعمال الحج خاصة منها النَّسِيء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إيلافهم‏}‏ عطف بيان من «إيلاف قريش» وهو من أسلوب الإجمال، فالتفصيل للعناية بالخبر ليتمكن في ذهن السامع ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 36‏]‏ حكاية لكلام فرعون، وقول امرئ القيس‏:‏

ويومَ دخلتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَة ***

والرحلة بكسر الراء‏:‏ اسم للارتحال، وهو المسير من مكان إلى آخر بعيد، ولذلك سمي البعير الذي يسافَر عليه راحلة‏.‏

وإضافة رحلة إلى الشتاء من إضافة الفعل إلى زمانه الذي يقع فيه فقد يكون الفعل مستغرقاً لزمانه مثل قَولك‏:‏ سَهَر الليل، وقد يكون وقتاً لابتدائه مثل صلاة الظهر، وظاهر الإِضافة أن رحلة الشتاء والصيف معروفة معهودة، وهما رحلتان‏.‏ فعطف ‏{‏والصيف‏}‏ على تقدير مضاف، أي ورحلة الصيف، لظهور أنه لا تكون رحلة واحدة تبتدأ في زمانين فتعين أنهما رحلتان في زمنين‏.‏

وجوز الزمخشري أن يَكون لفظ ‏{‏رحلة‏}‏ المفرد مضافاً إلى شيئين لظهور المراد وأمن اللبس‏.‏ وقال أبو حيان‏:‏ هذا عند سيبويه لا يجوز إلا في الضرورة‏.‏

و ‏{‏الشتاء‏}‏‏:‏ اسم لفصل من السنة الشمسية المقسمة إلى أربعة فصول‏.‏ وفصل الشتاء تسعة وثمانون يوماً وبضع دقائق مبدؤها حلول الشمس في برج الجَدْي، ونهايتها خروج الشمس من بُرج الحوت، وبروجه ثلاثة‏:‏ الجَدْي، والدَّلْوُ، والحوت‏.‏ وفصل الشتاء مُدة البرد‏.‏

و ‏{‏الصيف‏}‏‏:‏ اسم لفصل من السنة الشمسية، وهو زمن الحرّ ومدته ثلاثة وتسعون ويوماً وبضع ساعات، مبدؤها حلول الشمس في برج السَرَطان ونهايته خروج الشمس من برج السُّنْبُلَة، وبروجه ثلاثة‏:‏ السرطان، والأسد، والسنبلة‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ قال مالك‏:‏ الشتاء نصف السنة والصيف نصفها ولم أزل أرى ربيعة ابن أبي عبد الرحمان ومن معه لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا ‏(‏يعني طلوع الثريا عند الفجر وذلك أول فصل الصيف‏)‏ وهو اليوم التاسع عشر من ‏(‏بشنس‏)‏ وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس اه‏.‏ وشهر بشنس هو التاسع من أشهر السنة القبطية المجزأة إلى اثني عشر شهراً‏.‏

وشهر بشنس يبتدئ في اليوم السادس والعشرين من شهر نيسان ‏(‏أبريل‏)‏ وهو ثلاثون يوماً ينتهي يوم 25 من شهر ‏(‏أيار مايه‏)‏‏.‏

وطلوع الثريا عند الفجر وهو يوم تسعة عشر من شهر بشنس من أشهر القبط‏.‏ قال أيمة اللغة‏:‏ فالصيف عند العامة نصف السنة وهو ستة أشهر والشتاء نصف السنة وهو ستة أشهر‏.‏

والسنة بالتحقيق أربعة فصول‏:‏ الصيف‏:‏ ثلاثة أشهر، وهو الذي يسميه أهل العراق وخراسان الربيع، ويليه القَيْظ ثلاثة أشهر، وهو شدة الحر، ويليه الخريف ثلاثة أشهر، ويليه الشتاء ثلاثة أشهر‏.‏ وهذه الآية صالحة للاصطلاحين‏.‏ واصطلاح علماء الميقات تقسيم السنة إلى ربيع وصيف وخريف وشتاء، ومبدأ السنة الربيع هو دخول الشمس في بُرج الحَمَل، وهاتان الرحلتان هما رحلتا تجارة ومِيرة كانت قريش تجهزهما في هذين الفصلين من السنة إحداهما في الشتاء إلى بلاد الحبشة ثم اليمن يبلغون بها بلاد حمير، والأخرى في الصيف إلى الشام يبلغون بها مدينة بُصرى من بلاد الشام‏.‏

وكان الذين سنّ لهم هاتين الرحلتين هاشم بن عبد مناف، وسبب ذلك أنهم كانوا تعتريهم خصاصة فإذا لم يجد أهل بيت طعاماً لقوتهم حمل ربُّ البيت عياله إلى موضع معروف فضرب عليهم خباء وبقوا فيه حتى يموتوا جوعاً ويسمى ذلك الاعتفار ‏(‏بالعين المهملة وبالراء وقيل بالدال عوض الراء وبفاء‏)‏ فحدث أن أهل بيت من بني مخزوم أصابتهم فاقة شديدة فهموا بالاعتفار فبلغ خبرهم هاشماً لأن أحد أبنائهم كان تِرباً لأسد بن هاشم، فقام هاشم خطيباً في قريش وقال‏:‏ إنكم أحدثتم حدثاً تقِلون فيه وتكثر العرب وتذلون وتعزّ العرب وأنتم أهل حرم الله والناس لكم تُبّع ويكاد هذا الاعتفار يأتي عليكم، ثم جمع كل بني أب على رحلتين للتجارات فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير من عشيرته حتى صار فقيرهم كغنيهم، وفيه يقول مطرود الخزاعي‏:‏

يا أيها الرجُلُ المحوِّل رَحْله *** هلا نزلتَ بآل عبد مناف

الآخذون العُهد من آفاقها *** والراحلون لرِحلة الإِيلاف

والخالطون غنِيّهم بفقيرهم *** حتى يصير فقيرهم كالكافي

ولم تزل الرحلتان من إيلاف قريش حتى جاء الإِسلام وهم على ذلك‏.‏

والمعروف المشهور أن الذي سنّ الإِيلاف هو هاشم، وهو المروي عن ابن عباس، وذكر ابن العربي عن الهروي‏:‏ أن أصحاب الإِيلاف هاشم، وإخوته الثلاثة الآخرون عبدُ شمس، والمطلب، ونوفل، وأن كان واحد منهم أخذ حبلاً، أي عهداً من أحد الملوك الذين يمرون في تجارتهم على بلادهم وهم مَلِك الشام، وملك الحَبشة، وملك اليمن، ومَلِك فارس، فأخذ هاشم هذا من ملك الشام وهو ملك الروم، وأخذ عبد شمس من نجاشي الحبشة وأخذ المطلب من ملك اليمن وأخذ نوفل من كسرى ملك فارس، فكانوا يجعلون جُعلاً لرؤساء القبائل وسادات العشائر يسمى الإيلاف أيضاً يعطونهم شيئاً من الربح ويحملون إليهم متاعاً ويسوقون إليهم إبلاً مع إبلهم ليكفوهم مؤونة الأسفار وهم يكفون قريش دفع الأعداء فاجتمع لهم بذلك أمن الطريق كله إلى اليمن وإلى الشام وكانوا يسمَّوْن المُجِيرين‏.‏

وقد توهم النقاش من هذا أن لكل واحد من هؤلاء الأربعة رحلة فزعم أن الرِحَل كانت أربعاً، قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول مردود، وصدق ابن عطية، فإن كون أصحاب العهد الذي كان به الإِيلاف أربعة لا يقتضي أن تكون الرحلات أربعاً، فإن ذلك لم يقله أحد، ولعل هؤلاء الأخوة كانوا يتداولون السفر مع الرحلات على التناوب لأنهم المعروفون عند القبائل التي تمر عليهم العِير، أو لأنهم توارثوا ذلك بعد موت هاشم فكانت تضاف العِير إلى أحدهم كما أضافوا العير التي تَعرّض المسلمون لها يوم بدر عيرَ أبي سفيان إذ هو يومئذ سيد أهل الوادي بمكة‏.‏

ومعنى الآية تذكير قريش بنعمة الله عليهم إذ يسر لهم ما لم يتأت لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين وغارات المغيرين في السنة كلها بما يسر لهم من بناء الكعبة وشرعة الحج وأن جعلهم عمار المسجد الحرام وجعل لهم مهابة وحرمة في نفوس العرب كلهم في الأشهر الحرم وفي غيرها‏.‏

وعند القبائل التي تحرِّم الأشهر الحُرم والقبائللِ التي لا تحرّمها مثل طيء وقضاعة وخثعم، فتيسرت لهم الأسفار في بلاد العرب من جنوبها إلى شمالها، ولاذ بهم أصحاب الحاجات يسافرون معهم، وأصحاب التجارات يحمِّلونهم سلعهم، وصارت مكة وسطاً تُجلب إليها السلع من جميع البلاد العربية فتوزع إلى طالبيها في بقية البلاد، فاستغنى أهل مكة بالتجارة إذ لم يكونوا أهل زرع ولا ضرع إذ كانوا بوادٍ غير ذي زرع وكانوا يجلبون أقواتهم فيجلبون من بلاد اليمن الحبوب من بُرّ وشعير وذُرة وزبيب وأديم وثياب والسيوف اليمانية، ومن بلاد الشام الحبوب والتمر والزيت والزبيب والثياب والسيوف المشرفية، زيادة على ما جعل لهم مع معظم العرب من الأشهر الحرم، وما أقيم لهم من مواسم الحج وأسواقه كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليعبدوا رب هذا البيت‏}‏‏.‏

فذلك وجه تعليل الأمر بتوحيدهم الله بخصوص نعمة هذا الإِيلاف مع أن لله عليهم نعماً كثيرة لأن هذا الإِيلاف كان سبباً جامعاً لأهم النعم التي بها قوام بقائهم‏.‏

وقد تقدم آنفاً الكلام على معنى الفاء من قوله‏:‏ ‏{‏فليعبدوا رب هذا البيت‏}‏ على الوجوه كلها‏.‏

والعبادة التي أُمروا بها عبادة الله وحده دون إشراك الشركاء معه في العبادة لأن إشراك من لا يستحق العبادة مع الله الذي هو الحقيق بها ليس بعبادة أو لأنهم شُغلوا بعبادة الأصنام عن عبادة الله فلا يذكرون الله إلا في أيام الحج في التلبية على أنهم قد زاد بعضهم فيها بعد قولهم‏:‏ لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تَملِكُه ومَا مَلَك‏.‏

وتعريف ‏{‏رب‏}‏ بالإضافة إلى ‏{‏هذا البيت‏}‏ دون أن يقال‏:‏ فليعبدوا الله لما يومئ إليه لفظ ‏{‏رب‏}‏ من استحقاقه الإِفراد بالعبادة دون شريك‏.‏

وأوثر إضافة ‏{‏رب‏}‏ إلى ‏{‏هذا البيت‏}‏ دون أن يقال‏:‏ ربهم للإِيماء إلى أن البيت هو أصل نعمة الإِيلاف بأن أمر إبراهيم ببناء البيت الحرام فكان سبباً لرفعة شأنهم بين العرب قال تعالى‏:‏ ‏{‏جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏ وذلك إدماج للتنويه بشأن البيت الحرام وفضله‏.‏

والبيت معهود عند المخاطبين‏.‏

والإِشارة إليه لأنه بذلك العهد كان كالحاضر في مقام الكلام على أن البيت بهذا التعريف باللام صار علماً بالغلبة على الكعبة، و«رب البيت» هو الله والعرب يعترفون بذلك‏.‏

وأجري وصف الرب بطريقة الموصول ‏{‏الذي أطعمهم من جوع‏}‏ لما يؤذن به من التعليل للأمر بعبادة رب البيت الحرام بعلة أخرى زيادة على نعمة تيسير التجارة لهم، وذلك مما جعلهم أهل ثراء، وهما نعمة إطعامهم وأمنهم‏.‏ وهذا إشارة إلى ما يُسّر لهم من ورود سفن الحبشة في البحر إلى جدة تحمل الطعام ليبيعوه هناك‏.‏ فكانت قريش يخرجون إلى جدة بالإِبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين‏.‏ وكان أهل تبالة وجُرَش من بلاد اليمن المخصبة يحملون الطعام على الإِبل إلى مكة فيباع الطعام في مكة فكانوا في سعة من العيش بوفر الطعام في بلادهم، وكذلك يسر لهم إقامة الأسواق حول مكة في أشهر الحج وهي سوق مجنَّة، وسوق ذي المَجاز، وسوق عُكاظ، فتأتيهم فيها الأرزاق ويتسع العيش، وإشارة إلى ما ألقي في نفوس العرب من حرمة مكة وأهلها فلا يريدهم أحد بتخويف‏.‏

وتلك دعوة إبراهيم عليه السلام إذ قال‏:‏ ‏{‏رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏ فلم يتخلف ذلك عنهم إلا حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته‏:‏ «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» فأصابتهم مجاعة وقحط سبع سنين وذلك أوّل الهجرة‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ الداخلة على ‏{‏جوع‏}‏ وعلى ‏{‏خوف‏}‏ معناها البدلية، أي أطعمهم بدلاً من الجوع وآمنهم بدلاً من الخوف‏.‏ ومعنى البدلية هو أن حالة بلادهم تقتضي أن يكون أهلها في جوع فإطعامُهم بدلٌ من الجوع الذي تقتضيه البلاد، وأن حالتهم في قلة العدد وكونهم أهل حضر وليسوا أهل بأس ولا فروسية ولا شكَّة سلاح تقتضي أن يكونوا معرضين لغارات القبائل فجعل الله لهم الأمن في الحرم عوضاً عن الخوف الذي تقتضيه قلتهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وتنكير ‏{‏جوع‏}‏ و‏{‏خوف‏}‏ للنوعية لا للتعظيم إذ لم يحلّ بهم جوع وخوف من قبلُ، قال مساور بن هند في هجاء بني أسد‏:‏

زعمتم أن إخوتَكم قريش *** لهم إِلْفٌ وليس لكم إِلاَف

أولئك أُومِنوا جُوعاً وخَوفاً *** وقد جاعت بنو أسد وخافوا

سورة الماعون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ‏(‏1‏)‏ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ‏(‏2‏)‏ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

الاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المكذبين بالجزاء، وما أورثهم التكذيب من سوء الصنيع‏.‏ فالتعجيب من تكذيبهم بالدين وما تفرع عليه من دَعّ اليتيم وعدم الحضّ على طعام المسكين، وقد صيغ هذا التعجيب في نظم مشوِّق لأن الاستفهام عن رؤية من ثبتت له صلة الموصول يذهب بذهن السامع مذاهب شتى من تعرف المقصد بهذا الاستفهام، فإن التكذيب بالدين شائع فيهم فلا يكون مثاراً للتعجب فيترقب السامع ماذا يَرِد بعده وهو قوله‏:‏ ‏{‏فذلك الذي يدع اليتيم‏}‏‏.‏

وفي إقحام اسم الإِشارة واسم الموصول بعد الفاء زيادة تشويق حتى تقرع الصلة سمع السامع فتتمكن منه كَمَالَ تَمكُّن‏.‏

وأصل ظاهر الكلام أن يقال‏:‏ أرأيت الذي يكذب بالدين فَيدُع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين‏.‏

والإِشارة إلى الذي يكذب بالدين باسم الإِشارة لتمييزه أكملَ تمييز حتى يتبصر السامع فيه وفي صفته، أو لتنزيله منزلة الظاهر الواضح بحيث يشار إليه‏.‏

والفاء لعطف الصفة الثانية على الأولى لإفادة تسبب مجموع الصفتين في الحكم المقصود من الكلام، وذلك شأنها في عطف الصفات إذا كان موصوفها واحداً مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصافات صفاً فالزاجرات زجراً فالتاليات ذكراً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 1 3‏]‏‏.‏

فمعنى الآية عطفُ صفتي‏:‏ دَع اليتيم، وعدم إطعام المسكين على جزم التكذيب بالدين‏.‏

وهذا يفيد تشويه إنكار البعث بما ينشأ عن إنكاره من المذام ومن مخالفة للحق ومنَافياً لما تقتضيه الحكمة من التكليف، وفي ذلك كناية عن تحذير المسلمين من الاقتراب من إحدى هاتين الصفتين بأنهما من صفات الذين لا يؤمنون بالجزاء‏.‏

وجيء في ‏{‏يكذب‏}‏، و‏{‏يدُعّ‏}‏، و‏{‏يَحُضّ‏}‏ بصيغة المضارع لإفادة تكرر ذلك منه ودوامه‏.‏

وهذا إيذان بأن الإِيمان بالبعث والجزاء هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة حتى يصير ذلك لها خلقاً إذا شبت عليه، فزكت وانساقت إلى الخير بدون كلفة ولا احتياج إلى آمر ولا إلى مخافة ممن يقيم عليه العقوبات حتى إذا اختلى بنفسه وآمن الرقباء جاء بالفحشاء والأعمال النَّكراء‏.‏

والرؤية بصرية يتعدى فعلها إلى مفعول واحد، فإن المكذبين بالدين معروفون وأعمالهم مشهورة، فنزّلت شهرتهم بذلك منزلة الأمر المبصَر المشاهد‏.‏

وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي بعد الراء من ‏{‏أرأيت‏}‏ ألفاً‏.‏ وروى المصريون عن ورش عن نافع إبدالها ألفاً وهو الذي قرأنا به في تونس، وهكذا في فعل ‏(‏رأى‏)‏ كلما وقع بعد همزة استفهام، وذلك فرار من تحقيق الهمزتين، وقرأه الجمهور بتحقيقهما‏.‏

وقرأه الكسائي بإسقاط الهمزة التي بعد الراء في كل فعل من هذا القبيل‏.‏ واسم الموصول وصلتُه مراد بهما جنس من اتصف بذلك‏.‏ وأكثر المفسرين درجوا على ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقيل‏:‏ في الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيل‏:‏ في عمرو بن عائذ المخزومي، وقيل‏:‏ في أبي سفيان بن حرب قبل إسلامه بسبب أنه كان يَنحر كل أسبوع جَزوراً فجاءه مرة يتيم فسأله من لحمها فقرعه بعصا‏.‏

وقيل‏:‏ في أبي جهل‏:‏ كان وصياً على يتيم فأتاه عرياناً يسأله من مال نفسه فدفعه دفعاً شنيعاً‏.‏

والذين جعلوا السورة مدنية قالوا‏:‏ نزلت في منافق لم يسموه، وهذه أقوال معزو بعضها إلى بعض التابعين ولو تعينت لشخص معين لم يكن سبب نزولها مخصِّصاً حكمَها بمن نزلتْ بسببه‏.‏

ومعنى ‏{‏يدع‏}‏ يدفع بعنف وقهر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 13‏]‏‏.‏

والحض‏:‏ الحث، وهو أن تطلب غيرك فعلاً بتأكيد‏.‏

والطعام‏:‏ اسم الإِطعام، وهو اسم مصدر مضاف إلى مفعوله إضافة لفظية‏.‏ ويجوز أن يكون الطعام مراداً به ما يطعم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانظر إلى طعامك وشرابك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏ فتكون إضافة طعام إلى المسكين معنوية على معنى اللام، أي الطعام الذي هو حقه على الأغنياء ويكون فيه تقدير مضاف مجرور ب ‏(‏على‏)‏ تقديره‏:‏ على إعطاء طعام المسكين‏.‏

وكنى بنفي الحضّ عن نفي الإِطعام لأن الذي يشحّ بالحض على الإِطعام هو بالإِطعام أشح كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تحاضون على طعام المسكين‏}‏ في سورة الفجر ‏(‏18‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يحض على طعام المسكين‏}‏ في سورة الحاقة ‏(‏34‏)‏‏.‏

والمسكين‏:‏ الفقير، ويطلق على الشديد الفقرِ، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏}‏ في سورة التوبة ‏(‏60‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 7‏]‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ‏(‏4‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ‏(‏5‏)‏ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

موقع الفاء صريح في اتصال ما بعدها بما قبلها من الكلام على معنى التفريع والترتب والتسبب‏.‏ فيجيء على القول‏:‏ إن السورة مكية بأجمعها أن يكون المراد بالمصلين عينَ المراد بالذي يكذب بالدين، ويدُعّ اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، فقوله ‏{‏للمصلين‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار كأنه قيل‏:‏ فويل له على سهوه عن الصلاة، وعلى الرياء، وعلى منع الماعون، دعا إليه زيادة تعداد صفاته الذميمة بأسلوب سليم عن تتابع ستِّ صفات لأن ذلك التتابع لا يخلو من كثرة تكرار النظائر فيشبه تتابع الإِضافات الذي قيل إنه مُناكد للفصاحة، مع الإِشارة بتوسط ويل له إلى أن الويل ناشئ عن جميع تلك الصفات التي هو أهلها وهذا المعنى أشار إليه كلام «الكشاف» بغموض‏.‏

فوصفهم ب«المصلين» إِذَنْ تهكم، والمراد عدمه، أي الذين لا يصلون، أي ليسوا بمسلمين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 43، 44‏]‏ وقرينة التهكم وصفهم ب ‏{‏الذين هم عن صلاتهم ساهون‏}‏‏.‏

وعلى القول بأنها مدنية أو أن هذه الآية وما بعدها منها مدنية يكون المراد ‏{‏بالمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون‏}‏ المنافقين‏.‏ وروَى هذا ابنُ وهب وأشهبُ عن مالك، فتكون الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فويل للمصلين‏}‏ من هذه الجملة لربطها بما قبلها لأن الله أراد ارتباط هذا الكلام بعضه ببعض‏.‏

وجيء في هذه الصفة بصيغة الجمع لأن المراد ب ‏{‏الذي يكذب بالدين‏}‏‏:‏ جنس المكذبين على أظهر الأقوال‏.‏ فإن كان المراد به معيناً على بعض تلك الأقوال المتقدمة كانت صيغة الجمع تذييلاً يشمله وغيره فإنه واحد من المتصفين بصفة ترك الصلاة، وصفة الرياء، وصفة منع الماعون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين هم عن صلاتهم ساهون‏}‏ صفة ‏{‏للمصلين‏}‏ مقيِّدة لحكم الموصوف فإن الويل للمصلي الساهي عن صلاته لا للمصلي على الإطلاق‏.‏

فيكون قوله ‏{‏الذين هم عن صلاتهم ساهون‏}‏ ترشيحاً للتهكم الواقع في إطلاق وصف المصلين عليهم‏.‏

وعدي ‏{‏ساهون‏}‏ بحرف ‏{‏عن‏}‏ لإفادة أنهم تجاوزوا إقامة صلاتهم وتركوها ولا علاقة لهذه الآية بأحكام السهو في الصلاة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين عن صلاتهم ساهون‏}‏ يجوز أن يكون معناه الذين لا يؤدون الصلاة إلاّ رياء فإذا خلوا تركوا الصلاة‏.‏

ويجوز أن يكون معناه‏:‏ الذين يصلون دون نية وإخلاص فهم في حالة الصلاة بمنزلة الساهي عما يفعل فيكون إطلاق ‏{‏ساهون‏}‏ تهكماً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يراءون الناس ولا يذكرون اللَّه إلا قليلاً في المنافقين‏}‏ في سورة النساء ‏(‏142‏)‏‏.‏

و ‏(‏يراءون‏)‏ يقصدون أن يَرى الناسُ أنهم على حال حسن وهم بخلافه ليتحدث الناس لهم بمحاسنَ ما هم بموصوفين بها، ولذلك كَثر أن تعطف السُّمعة على الرياء فيقال‏:‏ رياء وسُمعة‏.‏

وهذا الفعل وارد في الكلام على صيغة المفاعلة ولم يسمع منه فعل مجرد لأنه يلازمه تكرير الإِراءة‏.‏

والماعون‏}‏‏:‏ يطلق على الإِعانة بالمال، فالمعنى‏:‏ يمنعون فضلهم أو يمنعون الصدقة على الفقراء‏.‏ فقد كانت الصدقة واجبة في صدر الإِسلام بغير تعيين قبل مشروعية الزكاة‏.‏

وقال سعيد بن المسيب وابن شهاب‏:‏ الماعون‏:‏ المال بلسان قريش‏.‏

وروى أشهب عن مالك‏:‏ الماعون‏:‏ الزكاة، ويشهد له قول الراعي‏:‏

قوم على الإِسلام لمّا يمنعوا *** ماعونهم ويضيِّعوا التهليلا

لأنه أراد بالتهليل الصلاة فجمع بينها وبين الزكاة‏.‏

ويطلق على ما يستعان به على عمل البيت من آنية وآلات طبخ وشدّ وحفر ونحو ذلك مما لا خسارة على صاحبه في إعارته وإعطائه‏.‏ وعن عائشة‏:‏ الماعون الماء والنار والملح‏.‏ وهذا ذم لهم بمنتهى البخل‏.‏ وهو الشح بما لا يزرئهم‏.‏

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏هم يراءون‏}‏ لتقوية الحكم، أي تأكيده‏.‏

فأما على القول بأن السورة مدنية أو بأن هذه الآيات الثلاث مدنية يكون المراد بالمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون والصلاتتِ بعدها‏:‏ المنافقين، فإطلاق المصلين عليهم بمعنى المتظاهرين بأنهم يصلون وهو من إطلاق الفعل على صورته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 64‏]‏ أي يظهرون أنهم يحذرون تنزيل سورة‏.‏

‏{‏ويمنعون الماعون‏}‏ أي الصدقة أو الزكاة، قال تعالى في المنافقين‏:‏ ‏{‏ويقبضون أيديهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ فلما عُرفوا بهذه الخلال كان مفاد فاء التفريع أن أولئك المتظاهرين بالصلاة وهم تاركوها في خاصتهم هم من جملة المكذبين بيوم الدين ويدُعُّون اليتيم ولا يحضّون على طعام المسكين‏.‏

وحكى هبة الله بن سَلاَمَة في كتاب «الناسخ والمنسوخ»‏:‏ أن هذه الآيات الثلاث نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول، أي فإطلاق صيغة الجمع عليه مراد بها واحد على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت قوم نوح المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏ أي الرسول إليهم‏.‏

والسهو حقيقته‏:‏ الذهول عن أمر سبق عِلمُه، وهو هنا مستعار للإِعراض والترك عن عمد استعارة تهكمية مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتنسون ما تشركون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 41‏]‏ أي تعرضون عنهم، ومثله استعارة الغفلة للإعراض في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏136‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين هم عن آياتنا غافلون‏}‏ في سورة يونس ‏(‏7‏)‏، وليس المقصود الوعيد على السهو الحقيقي عن الصلاة لأن حكم النسيان مرفوع على هذه الأمة، وذلك ينادي على أن وصفهم بالمصلين تهكم بهم بأنهم لا يصلون‏.‏

واعلم أنه إذا أراد الله إنزال شيء من القرآن ملحقاً بشيء قبله جعَل نظم الملحق مناسباً لما هو متصل به، فتكون الفاء للتفريع‏.‏ وهذه نكتة لم يسبق لنا إظهارها فعليك بملاحظتها في كل ما ثبت أنه نزل من القرآن ملحقاً بشيء نزل قبله منه‏.‏

سورة الكوثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ‏(‏1‏)‏ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ‏(‏2‏)‏‏}‏

افتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر‏.‏ والإِشعار بأنه شيء عظيم يستتبع الإِشعار بتنويه شأن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 1‏]‏‏.‏ والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الإخبار بعطاء سابق‏.‏

وضمير العظمة مشعر بالامتنان بعطاء عظيم‏.‏

و ‏{‏الكوثر‏}‏‏:‏ اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زِنة فوْعل، وهي من صيغ الأسماء الجامدة غالباً نحو الكوكب، والجورب، والحوشب والدوسر، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها، ولما وقع هنا فيها مادة الكَثْر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة، وهو أحسن ما فُسر به وأضبطُه، ونظيره‏:‏ جَوْهر، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوّه، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء لأن الصومعة دقيقة لأن طولها أفرط من غلظها‏.‏

ويوصفُ الرجل صاحب الخير الكثير بكَوثر من باب الوصف بالمصدر كما في قول لبيد في رثاء عوف بن الأحوص الأسدي‏:‏

وصاحب ملحوب فُجعنا بفقده *** وعند الرّداع بيتُ آخر كوثر

‏(‏ملحوب والرداع‏)‏ كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة، فوصف البيت بكوثر ولاحظ الكميت هذا في قوله في مدح عبد الملك بن مروان‏:‏

وأنتَ كثيرٌ يا ابنَ مروان طيبٌ *** وكان أبوك ابنُ العقايل كَوْثرا

وسمي نهر الجنة كوثراً كما في حديث مسلم عن أنس بن مالك المتقدم آنفاً‏.‏

وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعمها أنه الخير الكثير، وروي عن ابن عباس، قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس‏:‏ إن ناساً يقولون هو نهر في الجنة، فقال‏:‏ هو من الخير الكثير‏.‏ وعن عكرمة‏:‏ الكوثر هنا‏:‏ النبوءة والكتاب، وعن الحسن‏:‏ هو القرآن، وعن المغيرة‏:‏ أنه الإِسلام، وعن أبي بكر بن عَيَّاش‏:‏ هو كثرة الأمة، وحكى الماوردي‏:‏ أنه رفعة الذكر، وأنه نور القلب، وأنه الشفاعة، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره‏.‏

وأريد من هذا الخبر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وإزالةُ ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه‏:‏ هو أبتر، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر، إبطالاً لقولهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فصل لربك‏}‏ اعتراض والفاء للتفريع على هذه البشارة بأن يشكر ربه عليها، فإن الصلاة أفعال وأقوال دالة على تعظيم الله والثناء عليه وذلك شكر لنعمته‏.‏

وناسب أن يكون الشكر بالازدياد مما عاداه عليه المشركون وغيرهم ممن قالوا مقالتهم الشنعاء‏:‏ إنه أبتر، فإن الصلاة لله شكر له وإغاظة للذين ينهونه عن الصلاة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 9، 10‏]‏ لأنهم إنما نهَوْه عن الصلاة التي هي لوجه الله دون العبادة لأصنامهم، وكذلك النحر لله‏.‏

والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر في قوله‏:‏ ‏{‏فصل لربك‏}‏ دون‏:‏ فصلِّ لنا، لما في لفظ الرب من الإِيماء إلى استحقاقه العبادة لأجل ربوبيته فضلاً عن فرط إنعامه‏.‏

وإضافة ‏(‏رب‏)‏ إلى ضمير المخاطب لقصد تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتقريبه، وفيه تعريض بأنه يربُّه ويرأف به‏.‏

ويتعين أن في تفريع الأمر بالنحر مع الأمر بالصلاة على أن أعطاه الكوثر خصوصية تناسب الغرض الذي نزلت السورة له، ألا ترى أنه لم يذكر الأمر بالنحر مع الصلاة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏97، 98‏)‏‏.‏

ويظهر أن هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صدّ المشركين إيّاه عن البيت في الحديبية، فأعلمه الله تعالى بأنه أعطاه خيراً كثيراً، أي قدره له في المستقبل وعُبر عنه بالماضي لتحقيق وقوعه، فيكون معنى الآية كمعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏ فإنه نزل في أمر الحديبية فقد قال له عمر بن الخطاب‏:‏ أفتح هذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

وهذا يرجع إلى ما رواه الطبري عن قول سعيد بن جبير‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{‏فصل لربك وانحر‏}‏ أمر بأن يصلي وينحر هديه وينصرفَ من الحديبية‏.‏

وأفادت اللام من قوله‏:‏ ‏{‏لربك‏}‏ أنه يخُص الله بصلاته فلا يصلي لغيره‏.‏ ففيه تعريض بالمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها‏.‏

وعطف ‏{‏وانحر‏}‏ على ‏{‏فصل لربك‏}‏ يقتضي تقدير متعلِّقه مماثلاً لمتعلِّق ‏{‏فصل لربك‏}‏ لدلالة ما قبله عليه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أسمع بهم وأبصر‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 38‏]‏ أي وأبصر بهم، فالتقدير‏:‏ وانحر له‏.‏ وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قرباناً للأصنام فإن كانت السورة مكية فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اقترب وقت الحج وكان يحج كل عام قبلَ البعثة وبعدها قد تردد في نحر هداياه في الحج بعد بعثته، وهو يود أن يُطعم المحاويج من أهل مكة ومن يحضر في الموسم ويتحرجُ من أن يشارك أهل الشرك في أعمالهم فأمره الله أن ينحر الهدي لله ويطعمها المسلمين، أي لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت ناوياً بما تنحره أنه لله‏.‏

وإن كانت السورة مدنية، وكان نزولها قبل فرض الحج كان النحر مراداً به الضحايا يومَ عيد النحر ولذلك قال كثير من الفقهاء إن قوله‏:‏ ‏{‏فصل لربك‏}‏ مراد به صلاة العيد، ورُوي ذلك عن مالككٍ في تفسير الآية وقال‏:‏ لم يبلغني فيه شيء‏.‏

وأخذوا من وقوع الأمر بالنحر بعد الأمر بالصلاة دلالةً على أن الضحية تكون بعد الصلاة، وعليه فالأمر بالنحر دون الذبح مع أن الضّأن أفضل في الضحايا وهي لا تنحر وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضحّ إلا بالضأن تغليب للفظ النحر وهو الذي روعي في تسمية يوم الأضحى يومَ النحر وليشمل الضحايا في البدن والهدايا في الحج أو ليشمل الهدايا التي عُطل إرسالها في يوم الحديبية كما علمت آنفاً‏.‏ ويرشح إيثارَ النحر رَعْيُ فاصلة الراء في السورة‏.‏ وللمفسرين الأولين أقوال أخر في تفسير «انحر» تجعله لفظاً غريباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

استئناف يجوز أن يكون استئنافاً ابتدائياً‏.‏ ويجوز أن تكون الجملة تعليلاً لحرف ‏{‏إنّ‏}‏ إذا لم يكن لرد الإِنكار يكثر أن يفيد التعليل كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏32‏)‏‏.‏

واشتمال الكلام على صيغة قصر وعلى ضمير غائب وعلى لفظ الأبتر مؤذن بأن المقصود به ردُّ كلام صادر من معيَّن، وحكايةُ لفظٍ مرادٍ بالرد، قال الواحدي‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ إن العاصي بن وائل السهمي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام عند باب بني سهم فتحدث معه وأناسٌ من صناديد قريش في المسجد فلما دخل العاصي عليهم قالوا له‏:‏ من الذي كنت تتحدث معه فقال‏:‏ ذلك الأبترُ، وكان قد توفّي قبل ذلك عبدُ الله ابنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن مات ابنه القاسم قبلَ عبد الله فانقطع بموت عبد الله الذكورُ من ولده صلى الله عليه وسلم يومئذ، وكانوا يَصِفون من ليس له ابن بأبتر فأنزل الله هذه السورة، فحصل القصر في قوله ‏{‏إن شانئك هو الأبتر‏}‏ لأن ضمير الفصل يفيد قصر صفة الأبتر على الموصوف وهو شانئ النبي صلى الله عليه وسلم قصرَ المسند على المسند إليه، وهو قصر قلب، أي هو الأبتر لا أنت‏.‏

و ‏{‏الأبتر‏}‏‏:‏ حقيقته المقطوع بعضه وغلب على المقطوع ذَنبه من الدواب ويستعار لمن نقص منه ما هو من الخير في نظر الناس تشبيهاً بالدَّابة المقطوع ذَنَبها تشبيه معقول بمحسوس كما في الحديث‏:‏ ‏"‏ كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر ‏"‏ يقال‏:‏ بَتر شيئاً إذا قطع بعضَه وبَتر بالكسر كفرِح فهو أبتر، ويقال للذي لا عقب له ذكوراً، هو أبتر على الاستعارة تشبيه متخيل بمحسوس شبهوه بالدابة المقطوع ذنبها لأنه قُطع أثره في تخيُّل أهللِ العرف‏.‏

ومعنى الأبتر في الآية الذي لا خير فيه وهو رد لقول العاصي بن وائل أو غيره في حق النبي صلى الله عليه وسلم فبهذا المعنى استقام وصف العاصي أو غيره بالأبتر دون المعنى الذي عناه هو حيث لمز النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أبتر، أي لا عقب له لأن العاصي بن وائل له عقب، فابنه عمرو الصحابي الجليل، وابن ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي الجليل ولعبد الله عقب كثير‏.‏ قال ابن حزم في «الجمهرة» عقبه بمكة وبالرهط‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الأبتر‏}‏ اقتضت صيغة القصر إثبات صفة الأبتر لشانئ النبي صلى الله عليه وسلم ونفيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأبتر بمعنى الذي لا خير فيه‏.‏

ولكن لما كان وصف الأبتر في الآية جيء به لمحاكاة قول القائل‏:‏ «محمد أبتر» إبطالاً لقوله ذلك، وكانَ عرفهم في وصف الأبتر أنه الذي لا عقب له تعيّن أن يكون هذا الإِبطال ضرباً من الأسلوب الحكيم وهو تلقي السامع بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيهاً على أن الأحقَّ غيرُ ما عناه من كلامه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏ وذلك بصرف مراد القائل عن الأبتر الذي هو عديم الابن الذكر إلى ما هو أجدر بالاعتبار وهو الناقص حظّ الخير، أي ليس ينقص للمرء أنه لا ولد له لأن ذلك لا يعود على المرء بنقص في صفاته وخلائقه وعقله‏.‏ وهب أنه لم يولد له البتة، وإنما اصطلح الناس على اعتباره نقصاً لرغبتهم في الولد بناء على ما كانت عليه أحوالهم الاجتماعية من الاعتماد على الجهود البدنية فهم يبتغون الولد الذكور رجاء الاستعانة بهم عند الكبر وذلك أمر قد يعرض، وقد لا يعرض أو لمحبة ذِكر المرء بعد موته وذلك أمر وهمي، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أغناه الله بالقناعة، وأعزّه بالتأييد، وقد جعل الله له لسان صدق لم يجعل مثله لأحد من خلقه، فتمحض أن كماله الذاتي بما عَلِمه الله فيه إذ جعل فيه رسالته، وأن كماله العرضي بأصحابه وأمته إذ جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏.‏

وفي الآية محسن الاستخدام التقديري لأن سوق الإبطال بطريق القصر في قوله‏:‏ ‏{‏هو الأبتر‏}‏ نفيُ وصف الأبتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن بمعنًى غير المعنى الذي عناه شانئه فهو استخدام ينشأ من صيغة القصر بناء على أن ليس الاستخدام منحصراً في استعمال الضمير في غير معنى معاده، على ما حققه أستاذنا العلامة سالم أبو حاجب وجعله وجهاً في واو العطف من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء ربك والملك‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏ لأن العطف بمعنى إعادة العامل فكأنه قال‏:‏ وجاء الملك وهو مجيء مغاير لمعنى مجيء الله تعالى، قال‏:‏ وقد سَبقنا الخفاجي إلى ذلك إذ أجراه في حرف الاستثناء في «طراز المجالس» في قول محمد الصالحي من شعراء الشام‏:‏

وحديثُ حُبّي ليسَ بالْ *** مَنْسُوخ إلاّ في الدَّفاتر

والشانئ‏:‏ المبغض وهو فاعل من الشناءة وهي البغض ويقال فيه‏:‏ الشنآن، وهو يشمل كل مبغض له من أهل الكفر فكلهم بتر من الخير ما دام فيه شنآن للنبيء صلى الله عليه وسلم فأما من أسلموا منهم فقد انقلب بعضهم محبة له واعتزازاً به‏.‏

سورة الكافرون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ‏(‏1‏)‏ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏2‏)‏ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

افتتاحها ب ‏{‏قلْ‏}‏ للاهتمام بما بعد القول بأنه كلام يراد إبلاغه إلى الناس بوجه خاص منصوص فيه على أنه مرسل بقول يبلغه وإلا فإن القرآن كله مأمور بإبلاغه، ولهذه الآية نظائر في القرآن مفتتحة بالأمر بالقول في غير جواببٍ عن سؤال منها‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء للَّه‏}‏ في سورة الجمعة ‏(‏6‏)‏‏.‏ والسور المفتتحة بالأمر بالقول خمس سور‏:‏ ‏{‏قل أوحي‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 1‏]‏، وسورة الكافرون، وسورة الإخلاص، والمعوّذتان، فالثلاث الأول لقول يبلِّغه، والمعوّذتان لقول يقوله لتعويذ نفسه‏.‏

والنداء موجه إلى الأربعة الذين قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، كما في خبر سبب النزول وذلك الذي يقتضيه قوله‏:‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ كما سيأتي‏.‏

وابتدئ خطابهم بالنداء لإِبلاغهم، لأن النداء يستدعي إقبال أذهانهم على ما سيلقى عليهم‏.‏

ونُودوا بوصف الكافرين تحقيراً لهم وتأييداً لوجه التبرؤ منهم وإيذاناً بأنه لا يخشاهم إذا ناداهم بما يَكرهون مما يثير غضبهم لأن الله كفاه إياهم وعصمه من أذاهم‏.‏ قال القرطبي‏:‏ قال أبو بكر بن الأنباري‏:‏ إن المعنى‏:‏ قل للذين كفروا يا أيها الكافرون أن يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم‏:‏ يا أيها الكافرون، وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏لا أعبد ما تعبدون‏}‏ إخبار عن نفسه بما يحصل منها‏.‏

والمعنى‏:‏ لا تحصل مني عبادتي ما تعبدون في أزمنة في المستقبل تحقيقاً لأن المضارع يحتمل الحال والاستقبال فإذا دخل عليه ‏(‏لا‏)‏ النافية أفادت انتفاءه في أزمنة المستقبل كما درج عليه في «الكشاف»، وهو قول جمهور أهل العربية‏.‏ ومن أجل ذلك كان حرف ‏(‏لَن‏)‏ مفيداً تأكيد النفي في المستقبل زيادة على مطلق النفي، ولذلك قال الخليل‏:‏ أصل ‏(‏لَن‏)‏‏:‏ لا أنْ، فلما أفادت ‏(‏لا‏)‏ وحدها نفي المستقبل كان تقدير ‏(‏أنْ‏)‏ بعد ‏(‏لا‏)‏ مفيداً تأكيد ذلك النفي في المستقبل فمن أجل ذلك قالوا إن ‏(‏لن‏)‏ تفيد تأكيد النفي في المستقبل فعلمنا أن ‏(‏لا‏)‏ كانت مفيدة نفي الفعل في المستقبل‏.‏ وخالفهم ابن مالك كما في «مغني اللبيب»، وأبو حيان كما قال في هذه السورة، والسهيلي عند كلامه على نزول هذه السورة في «الروض الأنف»‏.‏

ونفي عبادته آلهتهم في المستقبل يفيد نفي أن يعبدها في الحال بدلالة فحوى الخطاب، ولأنهم ما عرضوا عليه إلا أن يعبد آلهتهم بعد سنة مستقبلة‏.‏

ولذلك جاء في جانب نفي عبادتهم لله بنفي اسم الفاعل الذي هو حقيقة في الحال بقوله‏:‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون‏}‏، أي ما أنتم بمغيِّرين إشراككم الآن لأنهم عرضوا عليه أن يبتدِئوا هُم فيعبدوا الرب الذي يعبده النبي صلى الله عليه وسلم سنة‏.‏ وبهذا تعلم وجه المخالفة بين نظم الجملتين في أسلوب الاستعمال البليغ‏.‏

وهذا إخباره إياهم بأنه يعلم أنهم غير فاعلين ذلك من الآن بإنباء الله تعالى نبيئه صلى الله عليه وسلم بذلك فكان قوله هذا من دلائل نبوءته نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ فإن أولئك النفر الأربعة لم يُسلم منهم أحد فماتوا على شركهم‏.‏

ومَا صدقُ ‏{‏ما أعبد‏}‏ هو الله تعالى وعبر ب ‏{‏ما‏}‏ الموصولة لأنها موضوعة للعاقل وغيره من المختار وإنما تختص ‏(‏مَن‏)‏ بالعاقل، فلا مانع من إطلاق ‏(‏ما‏)‏ على العاقل إذا كان اللبس مأموناً‏.‏ وقال السهيلي في «الروض الأنف»‏:‏ إن ‏(‏ما‏)‏ الموصولة يؤتى بها لقصد الإِبهام لتفيد المبالغة في التفخيم كقول العرب‏:‏ سبحان ما سَبَّح الرعد بحمده، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء وما بناها‏}‏ كما تقدم في سورة الشمس ‏(‏5‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ‏(‏4‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 3‏]‏ عطفَ الجملة على الجملة لمناسبة نفي أو يعبدوا الله فأردف بنفي أن يعبد هو آلهتهم، وعطفُه بالواو صارف عن أن يكون المقصود به تأكيدَ ‏{‏لا أعبد ما تعبدون‏}‏ فجاء به على طريقة‏:‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ بالجملة الإسمية‏.‏ للدلالة على الثبات، وبكَون الخبر اسم فاعل دالاً على زمان الحال، فلما نفَى عن نفسه أن يعبد في المستقبل ما يعبدونه بقوله‏:‏ ‏{‏لا أعبد ما تعبدون‏}‏ كما تقدم آنفاً، صرح هنا بما تقتضيه دلالة الفحوى على نفي أن يعبد آلهتهم في الحال، بما هو صريح الدلالة على ذلك لأن المقام يقتضي مزيد البيان، فاقتضى الاعتمادَ على دلالة المنطوق إطناباً في الكلام، لتأييسهم مما راودوه عليه ولمقابلة كلامهم المردود بمثله في إفادة الثبات‏.‏ وحصل من ذلك تقرير المعنى السابق وتأكيده، تبعاً لمدلول الجملة لا لموقعها، لأن موقعها أنها عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ وليست توكيداً لجملة‏:‏ ‏{‏لا أعبد ما تعبدون‏}‏ بمرادفها لأن التوكيد للفظ بالمرادف لا يعرف إلا في المفردات ولأن وجود الواو يُعيِّن أنها معطوفة إذ ليس في جملة‏:‏ ‏{‏لا أعبد ما تعبدون‏}‏ واو حتى يكون الواو في هذه الجملة مؤكداً لها‏.‏

ولا يجوز الفصل بين الجملتين بالواو لأن الواو لا يفصل بها بين الجملتين في التوكيد اللفظي‏.‏ والأجود الفصل ب ‏(‏ثم‏)‏ كما في «التسهيل» مقتصراً على ‏(‏ثُم‏)‏‏.‏ وزاد الرضي الفَاء ولم يأت له بشاهد ولكنه قال‏:‏ «وقد تكون ‏(‏ثم‏)‏ والفاء لمجرد التدرج في الارتقاء وإن لم يكن المعطوف مترتباً في الذكر على المعطوف عليه وذلك إذا تكرر الأول بلفظه نحو‏:‏ بالله، فالله، ونحو واللَّهِ ثم واللَّهِ»‏.‏

وجيء بالفعل الماضي في قوله‏:‏ ‏{‏ما عبدتم‏}‏ للدلالة على رسوخهم في عبادة الأصنام من أزمان مضت، وفيه رمز إلى تنزهه صلى الله عليه وسلم من عبادة الأصنام من سالف الزمان وإلا لقال‏:‏ ولا أنا عابد ما كُنا نعبد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ولا أنا عابد ما عبدتم‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 4‏]‏ لبيان تمام الاختلاف بين حاله وحالهم وإخبار بأنهم لا يعبدون الله إخباراً ثانياً تنبيهاً على أن الله أعلمه بأنهم لا يعبدون الله، وتقويةً لدلالة هذين الإِخبار على نبوءته صلى الله عليه وسلم فقد أخبر عنهم بذلك فماتَ أولئك كلهم على الكفر وكانت هذه السورة من دلائل النبوءة‏.‏

وقد حصل من ذكر هذه الجملة بمثل نظيرتها السابقة توكيد للجملة السابقة توكيداً للمعنى الأصلي منها، وليس موقعها موقع التوكيد لوجود واو العطف كما علمت آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏ولا أنا عابد ما عبدتم‏}‏‏.‏

ولذلك فالواو في قوله هنا‏:‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ عاطفة جملة على جملة لأجل ما اقتضته جملة‏:‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ من المناسبة‏.‏

ويجوز أن تكون جملة ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ تأكيداً لفظياً لنظيرتها السابقة بتمامها بما فيها من واو العطف في نظيرتها السابقة وتكون جملة‏:‏ ‏{‏ولا أنا عابد ما عبدتم‏}‏ معترضة بين التأكيد والمؤكد‏.‏

والمقصود من التأكيد تحقيق تكذيبهم في عَرضهم أنهم يعبدون رب محمد صلى الله عليه وسلم

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

تذييل وفذلكة للكلام السابق بما فيه من التأكيدات، وقد أُرسل هذا الكلام إرسالَ المثل وهو أجمع وأوجز من قول قيس بن الخطيم‏:‏

نَحْن بما عندنا وأنتَ بما *** عنْدك راض والرأي مختلف

ووقع في «تفسير الفخر» هنا‏:‏ «جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبَّر فيه ثم يعمل بموجبه» ا ه‏.‏

وهذا كلام غير محرر لأن التمثل به لا ينافي العمل بموجبه وما التمثل به إلا من تمام بلاغته واستعداد للعمل به‏.‏ وهذا المقدار من التفسير تركه الفخر في المسودة‏.‏

وقدم في كلتا الجملتين المسندُ على المسند إليه ليفيد قصر المسند إليه على المسند، أي دينكم مقصور على الكون بأنه لكم لا يتجاوزكم إلى الكون لي، وديني مقصور على الكون بأنه لا يتجاوزني إلى كونه لكم، أي لأنهم محقق عدم إسلامهم‏.‏ فالقصر قصر إفراد، واللام في الموضعين لشِبه الملك وهو الاختصاص أو الاستحقاق‏.‏

والدين‏:‏ العقيدة والملة، وهو معلومات وعقائد يعتقدها المرء فتجري أعماله على مقتضاها، فلذلك سمي دِيناً لأن أصل معنى الدين المعاملة والجزاء‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏دين‏}‏ بدون ياء بعد النون على أن ياء المتكلم محذوفة للتخفيف مع بَقاء الكسرة على النون‏.‏ وقرأه يعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف‏.‏ وقد كتبت هذه الكلمة في المصحف بدون ياء اعتماداً على حفظ الحفاظ لأن الذي يُثبت الياء مثل يعقوب يُشبع الكسرة إذ ليست الياء إلا مَدّة للكسرة فعدم رسمها في الخط لا يقتضي إسقاطها في اللفظ‏.‏

وقرأ نافع والبزي عن ابن كثير وهشام عن ابن عامر وحفص عن عاصم بفتح الياء من قوله‏:‏ ‏{‏ولي‏}‏‏.‏ وقرأه قنبل عن ابن كثير وابنُ ذكوان عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب وخلف بسكون الياء‏.‏